مساءلة المردود الاقتصادي للجاليات العربية في الخارج!

محمد زاوي

المشاركة

في السياق الذي تلا الحرب العالميّة الثانية - ابتداءً من خمسينيّات القرن الماضي (القرن 20 م) - كان الغرب الرّأسمالي أكثر إقبالًا على اليد العاملة الجنوبية (من مجتمعات الجنوب)، ومنها اليد العاملة العربية. في هذا الإطار، تشكّلت فئة "الجاليات العربية في الخارج"، وأصبحت جزءًا من التشكيلة الاقتصادية - الاجتماعية الأوروبية والعربية عمومًا، كما أصبحت جزءًا من البنية الاقتصادية لدولها وبلدانها الأصلية بحُكم ارتباطها بهذه الأخيرة.

مساءلة المردود الاقتصادي للجاليات العربية في الخارج!

طيلة ما تبقى من القرن الماضي (20 م) وإلى غاية العقد الأول من القرن الحالي (21 م)، لعبت اليد العاملة العربية دورًا مُهمًّا في تطوير قوى الإنتاج الأوروبية (وبالتالي تطوير الاقتصاد)، وأساسًا في مضاعفة القيمة الزائدة الأوروبية، ومعلومٌ دور ذلك في تطوير الرأسمال الأوروبي.

إنّ هذا الانفتاح الغربي على اليد العاملة العربية، على الرَّغم من أهميته ودوره في تنمية الرّأسمال الأوروبي، فإنّ الحاجة إلى ضبطه والتحكّم فيه تبقى مُلحّة. وذلك بالإضافة إلى أنّ الرّأسمال الأوروبي لم يعُد في ما بعد - مع بداية الألفية الثالثة - قادرًا على استيعاب المهاجرين كافّة، نظرًا لأزماتٍ بنيويةٍ أخذت تظهر وتتفاقم في الرّأسمالات الأوروبية من جهةٍ أولى، ونظرًا أيضًا لفائض اليد العاملة لديها - والذي أصبح يهدّدها من الداخل - من جهةٍ ثانية.

لا تُوضَع التحويلات المالية في إطار مخطّط لتنظيم المردود الاقتصادي للجاليات العربية والاستفادة منه عربيًا

أدّى هذا الواقع الجديد إلى تشديد شروط الهجرة النّظامية وغير النّظامية، وكأنّ الغرب الذي استنزف ثروات الوطن العربي بالاستعمار المباشِر تارةً، والاستغلال الاقتصادي في إطار "الاستعمار الجديد" تارةً أخرى؛ وكأنّه في حلٍّ من آلاف، بل ملايين الشباب العرب الذين يُعدّون ضحايا لسياساته الاستعمارية، باعتباره (الغرب) النّقيض الرئيس للتنمية العربية واستقلال الاقتصاد العربي.

في هذا الإطار، يجب مساءلة الحكومات العربيّة عن سياساتها، منذ الاستقلال إلى اليوم، في تدبير ملف جاليّاتها بالخارج:

هل اعتمدت هذه الدول سياساتٍ لتصريف فائضها البشري بانتظام إلى الخارج، وذلك في علاقتها بالدول الأوروبية (بخاصّة تلك الاستعمارية التي استنزفت خاماتها وقيمتها الإنتاجية لعقود)؟ وهل درست هذه الحكومات الإمكانيات والخبرات التي من الممكن أن تُوفّرها الجاليات العربية لبلدانها الأصلية؟ وهل فكّرت في وسائل أخرى للحصول على المردود الاقتصادي لهذه الجاليات غير التحويلات المالية، أم أنّ الأمر بقي مُقتصرًا على هذه الأخيرة؟ وهل فكّرت الحكومات ذاتها تفكيرًا جادًا في تطوير وتنمية هذه التحويلات نفسها؟ وهل أعدّت سياساتٍ لصرف "تحويلات الجالية" في أوجهٍ استثماريةٍ وتنمويةٍ كبرى، أم أنّ هذه "التحويلات" بقيت مجرّد أرقامٍ تُستصحَب في إطار الحديث عن "عجز الميزانيّات" الذي تفاقم بعد القبول بـ"اتفاق واشنطن" وعددٍ من إملاءات المؤسّسات الدولية (الرأسمالية) الدائنة؟!.

تشدُّد الدول الأوروبية في الانفتاح على اليد العاملة العربية يدفع باتجاه التفكير في التكامل الاقتصادي العربي

ما يُلاحظ هو أنّ التركيز بقي مُقتصرًا على "التحويلات المالية"، فيما اتّسم التخطيط لما يمكن أن تُقدّمه الجاليات العربية من خبراتٍ واستثماراتٍ بالضعف. وعلى الرَّغم ممّا تُوفره التحويلات المالية للجاليات العربية في الخارج من عملةٍ صعبة (أرقام البنك الدولي الخاصّة بسنة 2024: 22.7 مليار دولار بالنسبة لمصر، 12 مليار دولار بالنسبة للمغرب، 5.8 مليارات دولار بالنسبة للبنان، 4.8 مليارات دولار بالنسبة للأردن، 3.8 مليارات دولار بالنسبة لليمن، 2.8 مليار دولار بالنسبة لتونس، 1.94 مليار دولار بالنسبة للجزائر، 1.5 مليار دولار بالنسبة لقطر، 1 مليار دولار بالنسبة للسودان، 879 مليون دولار بالنسبة للعراق)، وعلى الرَّغم من تطوّر هذه التحويلات من حيث قيمتها؛ إلّا أنّها ظلّت غير كافيةٍ أوّلًا، ولا تُستثمَر بنجاعةٍ تنمويةٍ من جهةٍ ثانيةٍ، ولا تُوضَع من جهةٍ ثالثة، في إطار مخطّطٍ لتنظيم المردود الاقتصادي للجاليات العربية والاستفادة منه عربيًا.

دول الخليج من الممكن أن توفّر بنية إنتاج بديلة للبنية الأوروبية لتصدير اليد العاملة العربية من الدول ذات الفائض فيها

ومن زاوية نظر أخرى، فإنّ تشدّد الدول الأوروبية في الانفتاح على اليد العاملة العربية بسبب ظروفها الرّأسمالية الجديدة، من شأنه أن يتحوّل إلى دافعٍ في اتجاهين: في اتجاه إعداد سياساتٍ ناجعةٍ للاستفادة ممّا راكمته الجاليات العربية من "رأسمالٍ أوّلي" (قابل للاستثمار في دولها الأصلية) و"خبراتٍ أوّلية" (قابلة للتوظيف كقوة إنتاجٍ تقنيةٍ وإدارية)، وأيضًا في اتجاه التفكير في التكامل الاقتصادي العربي من جديد.

هذا الاتجاه الثاني لا يخلو من أهميةٍ، كما لا تعوزه واقعية اقتصادية، بخاصّة في دول الخليج التي من الممكن أن توفّر بنية إنتاج جديدة، بديلة للبنية الأوروبية، لتصدير اليد العاملة العربية من الدول ذات الفائض فيها. وهو واقعٌ أصبح ملحوظًا، من دول المغرب العربي نحو دول الخليج مثلًا؛ إلّا أنّه في حاجةٍ إلى تخطيطٍ في أفق الاستفادة المحلية الخاصّة بكلّ دولة على حدة، وفي أفق الاستفادة العربية التكامليّة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن