غير أنّ المبادرات جميعًا، اصطدمت برفض النظام وعنجهيته وسط إيحاءاته بأنه حقق انتصارًا في الصراع السوري، وصار بمكانة يستطيع منها أن يضع شروطًا ومطالب دون أن يقدّم أي التزامات، تتجاوز مجرد الحديث عن خطوات مطلوبة ولازمة في قضية مثل قضية اللاجئين الذين ربط عودتهم كما قال بتوفير احتياجات العودة، متجاهلًا دوره في القضية، وما يمكن أن يقوم به من خطوات في معالجة القضية.
الحراك المدني الجديد أقلق النظام وجعله في حيرة الرد في منطقتين لهما أهمية خاصة
ولأن أصابت مواقف النظام أصحاب المبادرة بالإحباط، وتعطلت مبادرتهم، وذهب بعضهم للبحث عن سبل أخرى، فإنّ النتيجة في جانب آخر، ألهمت بعض السوريين المضي إلى تحرّك يُعيد ثورة السوريين إلى بدايتها في حراك مدني واسع وسلمي، فانطلقت انتفاضة السويداء، فيما صدرت تحركات نشطاء في منطقة الساحل السوري المحسوبة بأنها حاضنة النظام وخزّانه السياسي - الاجتماعي في حربه على السوريين، وتركّزت تلك التحركات على نقد سلوك النظام ودعوة مؤيديه للانفكاك عنه والتوجه نحو مواقف تدعم الحل السياسي في سوريا، وقد ركّزت أغلب الأطروحات، أن يتمّ ذلك بعيدًا عن الأسد، وهي النقاط التي أثارتها انتفاضة السويداء.
ورغم أنّ الحراك المدني الجديد، ووسط ظروف أمنية ومعاشية صعبة في مناطق سلطات الأمر الواقع، لم يجد تفاعلًا على نطاق واسع في الداخل السوري باستثناء تظاهرات محدودة، وتأييد ومناصرة على وسائل التواصل الاجتماعي بمشاركة مثقفين وناشطين في العمل العام، فإنّ التحرك أقلق النظام، بل جعله في حيرة الرد في منطقتين لهما أهمية خاصة باعتباره "حامي الأقليات"، فلا يستطيع القيام برد تقليدي في الحصار والاقتحام والقصف الصاروخي وصولًا إلى رمي البراميل المتفجّرة، بل إنه وحسب ما هو شائع، لا يملك الإمكانات المادية التي تجعله قادرًا على تنفيذ هكذا جريمة.
وسط خصوصيات الحراك المدني، لجأ النظام إلى خياراته الاعتيادية والأهم فيها، تنظيم حملة إعلامية دعاوية، يتشارك فيها الإعلام الرسمي وداعموه للحديث عن مؤامرة وتخوين الفاعلين في الحراك، والقول بارتباطاتهم الخارجية وسعيهم للانفصال عن سوريا وغيرها، لكن الأهم في الرد على الحراك المدني، كان في الجانب العملي وتمحور في خطوات، أوّلها استنفار أمني واسع في مناطق الحراك وحولها لمراقبة شديدة ومباشرة، ومنع اتصال حر وواسع بين مناطق الحراك وجوارها، ومنع تمدّدها إلى مناطق أخرى، والثانية خطف الأضواء من منطقة الحراك وما يطرحه من أنشطة وشعارات ومطالب، إلى مناطق أكثر سخونة فيها اشتباكات مسلحة أو تفجيرات، وهذا ما حدث عمليًا في مناطق سواء قام بها النظام مباشرةً أو قام بها آخرون، وكان من أهم تلك الأعمال الاشتباكات المسلحة في شرق سوريا بين قوات سوريا الديمقراطية "قسد" والعشائر العربية التي وجدت مؤازرة معلنة في تسليحها من قبل النظام وفي تأمين ملاذ آمن لقياداتها في مناطق سيطرة النظام بعد ما لحقتها الهزيمة من ميليشيات "قسد".
وثمة جانب آخر في موقف النظام من معارك شرق سوريا الأخيرة، أساسه إبراز ما يحدث باعتباره جزءًا من صراع عربي - كردي وتسعيره، وأنه يقف ضد "الكرد الانفصاليين" ويدعم موقف العرب متناسيًا أنه ألحق أفدح الخسائر بالعرب في سوريا في سنوات العقد الماضي، قتلًا وجرحًا واعتقالًا وتدميرًا لقدراتهم قبل تهجيرهم.
من يملك الإمكانيات للقيام بتفجيرات "الكلية الحربية" ويمكن أن يقوم بها دون موانع، هم حلفاء النظام والإيرانيون
وجرى ارتكاب جريمة من جانب تحالف النظام، تفوق ما حدث في شرق الفرات، بدأت في تفجيرات الكلية الحربية بحمص وما لحقها من تداعيات أودت بحياةِ وجَرَحت مئات السوريين في الكلية، وقريبًا من الرقم ممن قُتلوا وجُرحوا وتم تهجيرهم من السوريين في شمال غرب سوريا بفعل القصف الجوي والصاروخي لقوات الأسد والطيران الروسي، وتم إعلانه بمثابة رد فعل على جريمة الكلية الحربية، التي لا تملك التنظيمات المسلّحة هناك إمكانيات مادية وسياسية للقيام بها لأنّ تركيا تمنع القيام بهذ العمليات حتى لو توفرت الإمكانيات، وسط حقيقة أنّ من يملكها، ويمكن أن يقوم بها دون موانع، هم حلفاء النظام والإيرانيون خصوصًا.
إنّ الجانب الشديد الأهمية في خلفيات جريمة الكلية الحربية، يكمن في الهدف الأساسي، وهو إعادة شحن الطائفة العلوية للوقوف إلى جانب النظام في حربه المستمرة، ذلك أنّ أغلب من قُتلوا وجُرحوا في العملية من أبناء الساحل السوري العلويين الذين يعيشون حالة من التململ نتيجة سياسات النظام في إفقارهم وتصعيب ظروف حياتهم بعد أن جعلهم طرفًا في الحرب على مواطنيهم السوريين، وقتل أولادهم، وخلف لهم كثيرًا من الأرامل والأطفال والمصابين الذين يفتقدون أي رعاية واهتمام من النظام ومؤسساته، وهو يفرض اليوم رقابة بوليسية شديدة على مناطقهم خوفًا من أي تحرّك محتمل ضده في ضوء أصوات ناشطين من أبناء المنطقة يحرّضون على رئيس النظام ويطالبون بذهابه.
ووفق سياق الوقائع والأهداف المعلنة والكامنة في سياسات وإجراءات النظام وجرائمه، فإنّ الخلاصة، تؤكد سعي النظام إلى تجديد الحرب في سوريا، لكن وسط تغييرات فرضتها تطورات سنوات طويلة، شهدت تدميرًا لمعارضي النظام وقدراتهم، حيث قُتل واعتُقل كثيرون، وتمّ تهجير نحو نصف السكان. ويأتي تجديد الحرب في ظلّ وجود إيران ومليشياتها وروسيا ووقوفهم إلى جانب النظام وسط ميوعة الموقف الدولي، وتراجع بعض من وقفوا إلى جانب السوريين عن موقفهم يأسًا واحباطًا.
ويراهن النظام في تجديد الحرب على ثلاثة أمور أساسية، أولها استنهاض عصب النظام الطائفي ضد خصوم النظام ومعارضيه، والتحشيد ضد "الكرد الانفصاليين" والاستعداد لحل حاسم مع السويداء في الوصول إلى تسوية تناسبه أو الحسم بالقوة. غير أنّ أهالي السويداء يكرّرون مثلًا سوريًا معروفًا: "حسابات البيدر لا تنطبق على حسابات الحقل".
(خاص "عروبة 22")