اخترنا الحديث عن اقتصاد الرياضة بالتزامن مع اختيار دولة عربية لاحتضان كأس العالم بعد أقل من عقد، أي اختيار ملف المغرب وإسبانيا والبرتغال كمرشّح وحيد لاحتضان نهائيات كأس العالم سنة 2030، وهو حديث يأتي أيضًا بعد النجاح الكبير الذي لاقته النسخة الأخيرة لكأس العالم التي احتضنتها دولة قطر، والتي أسهمت بشكل كبير في لفت الانتباه إلى هذا البُعد الاقتصادي وإلى إسقاطاته الإيجابية على الاقتصاد والدبلوماسية.
مقاربات جديدة من قبل بعض الدول العربية بخصوص موقع الرياضة في الاقتصاد والدبلوماسية
قلّة من الدول العربية كانت تُبدي اهتمامها بالاقتصاد الرياضي، بل نجد أنّ معظم الدول العربية تعاطت مع الرياضة خلال العقود الماضية من منطلق الترفيه والهواية أو من بوابة التوظيف السياسي لتأطير الجماهير وتلميع صورة الأنظمة السياسية لا غير، وهو ما فَوَّت على الدول العربية فرصًا عديدة لتنويع اقتصادها والاستفادة من أدوات التأثير الناعم التي يمنحها هذا الاقتصاد.
مع بداية الألفية الثالثة، سيتمّ تبنّي مقاربات جديدة من قبل بعض الدول العربية بخصوص موقع الرياضة في الاقتصاد والدبلوماسية. في هذا السياق نورد النموذج القطري، الذي عملت من خلاله الدوحة على ولوج الاقتصاد الرياضي من بوابة الإعلام، حيث أسّست شبكة إعلامية رياضية سرعان ما تطوّرت لتصبح من أكبر شبكات الإعلام الرياضي العالمية، التي لم يعد بثّها يقتصر على المنطقة العربية بل تجاوزها لمختلف بقاع العالم ما مكّنها من تحقيق أرباح مالية كبيرة وتعزيز تأثير قطر الدبلوماسي لا سيما على شعوب المنطقة العربية، وهو توجّه تعمل عدد من الدول العربية الخليجية على مواكبته، سواء من خلال الاستثمار في الإعلام الرياضي أو تعزيز التدفقات الاستثمارية لتطوير عدد من القطاعات الرياضية في مقدّمتها كرة القدم وألعاب القوى، ما أفضى إلى تطوير أداء بعض البطولات العربية - الخليجية لتواكب تطور الأداء الإعلامي خاصة في المملكة العربية السعودية ودولة قطر، وصولًا إلى تطوير أداء المنتخبات ولو عن طريق تجنيس لاعبين أجانب إلى جانب تطوير البنى التحتية الرياضية والسياحية والاستشفائية المرتبطة.
لقد استطاعت هذه الدول بفضل هذه التوجهات من إرساء قواعد اقتصاد رياضي وبنية تحتية قوية، عملت على استغلالها في تنظيم كبريات التظاهرات الرياضية القارية والدولية، كان آخرها كأس العالم الذي احتضنته دولة قطر السنة الماضية وهو الحدث الذي كانت وستكون له إسقاطات إيجابية على الاقتصاد والدبلوماسية القطرية على المدى القصير والمتوسط أيضًا، كما كان له دور في التقريب بين دول الخليج والتعجيل بتذويب الخلافات التي كادت أن تتطوّر في فترة من الفترات إلى مواجهة مسلحة مفتوحة.
سعي دول المشرق في العالم العربي لتطوير اقتصادهم الرياضي، كان يوازيه سعي آخر بمغربه، خاصة في الجزائر والمغرب، لقد سعت المملكة المغربية في هذا الصدد إلى استلهام النموذج الإسباني والعمل على خلق بنية تحتية داعمة لهذا الاقتصاد.
الدول المغاربية ترجّح كفة الخلافات السياسية والقطيعة على التكامل والتصالح والتعايش
كانت البدايات محتشمة، إلا أنه سرعان ما تمّت مضاعفة الجهود من أجل تطوير البنية التحتية الرياضية وتطوير أداء الأندية والمنتخبات في شتى الرياضات، عبر تسريع الانتقال من الهواية إلى الاحتراف وإعطاء الأولوية لكرة القدم وألعاب القوى وتطوير البنى التحتية، وهي الجهود التي تعزّزت بشكل كبير خلال العقد الماضي، الأمر الذي مكّن المغرب من التوفر على أرضية متينة لاحتضان كبريات المنافسات القارية والدولية، إلى جانب تعزيز حظوظه في الظفر باحتضان كأس العالم، ليكون بذلك ثاني بلد عربي يحظى بهذا الشرف، رفقة بلدين أجنبيين هما إسبانيا والبرتغال، وبذلك تكون المملكة قد تحصلت على عوائد دبلوماسية قبل تنظيم هذه الفعاليات، وذلك من خلال توظيف البوابة الاقتصادية من أجل تحصيل موقف تاريخي من قبل إسبانيا يتعلّق بالوحدة الترابية للمغرب، وهو ما يعني النجاح في توظيف الاقتصاد لتذويب الخلافات التاريخية مع الجار.
إنه المعطى الذي كنا نأمل في أن يحصل بين دول المغرب العربي، التي كان بإمكانها تقديم ملف ترشيح موحّد لتنظيم كأس العالم، مما يعني في حالة ظفرهم بتنظيمه تذويب الخلافات وبثّ الروح في مؤسسات اتحاد المغرب العربي، ناهيك عن تطوير البنى التحتية وتعزيز التكامل الاقتصادي البيني، وهو ما سيكون له أثر إيجابي عن نسب النمو والبطالة والتدفقات الاستثمارية.
للأسف، مرّة أخرى تُخلف الدول المغاربية موعدها مع التاريخ وترجح كفة الخلافات السياسية والقطيعة على التكامل والتصالح والتعايش، وهو ما يكرّس هدر الزمن التنموي وإبطاء سرعة النمو وتكرار اجترار خيبات الأمل من قبل شعوب المنطقة.
(خاص "عروبة 22")