هذا النمط من الطغاة زرع أنماطًا من الموالين من التكنو-بيروقراط ممن ليسوا لديهم رأسمال سياسي وخبراتي خارج تخصصاتهم. تحوّلت الجمهوريات الجديدة في سياقات الحرب الباردة إلى ملك عضوض من لحظة صعود الرئيس عبر نظام الاستفتاءات الشكلية سابقة التجهيز، أو الانقلابي من الجيش إلى سدة السلطة، ومعه أتباعه من أهل الثقة إلى مراكز القوة العليا في البلاد، ويتحوّلون إلى طغاة صغار في مجال ممارستهم للسلطة كل في مستواه الوظيفي والسلطوي مع قانون الاتباعية والموالاة للسيّد الأوحد عند قمّة النظام، أو من يعلوه في مستويات القوة.
مع موت السياسة تحوّلت النظم السياسية الشمولية والتسلطية إلى سياسة الإدارة حيث اعتمدت على الإدارة التكنوبيروقراطية التي هيمنت على هياكل الدولة وأجهزتها المختلفة، وتمدّد فسادها الهيكلي والإداري، في مقابل الولاء المعلن والمطلق للحاكم شبه الإله، الذي يستدعي الله جل جلاله، والإسلام ليسند إليه قراراته، ويضفي عليها بعض من المقدّس تبريرًا وتسويغًا إلهيًا لها!، لغياب المساءلة السياسية من الشعب الذي صعد إلى السلطة باسمه!.
في ظلّ الهندسة الأمنية والسياسية للخوف تتحوّل الدساتير إلى محض نصوص عارية من مضامينها
من هنا كانت الدساتير العربية في غالبها مسخًا مشوّهًا من المتون الدستورية للمركز الأوروبي، وخاصة من الثقافة الدستورية (اللاتينية – الفرنسية) والطابع شبه الرئاسي للجمهورية الخامسة، وإعطاء الحاكم شبه المتألّه عند قمّة النظام صلاحيات واسعة النطاق، بحيث يتغوّل على السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، وتغدو الحكومات محض سكرتارية عند رئيس الجمهورية، وتتمركز القوة رهن إرادته شبه المطلقة، ومشيئته الطليقة من القيود والضوابط التي تحد منها أو تعقلنها!.
في ظلّ هذا النمط من جمهوريات العنف السلطوي يبدو الخوف محلقًا فوق رؤوس الجميع من الطبقة السياسية الحاكمة، للمعارضات، والشعب، ولا راد لقضاء الحاكم، وهناك أيضًا أجهزة الدولة الايديولوجية التابعة، جاهزة للتبرير والتمجيد لقرارات الحاكم الأوحد.
الدولة والسلطة المشخصنة تفرض قبضتها على الأجهزة التي تحتكر رمزيًا وفعليًا "العنف المشروع"، وتعد أدوات السلطة في إشاعة أقصى درجات الخوف من الاعتقال والأحكام الجنائية السياسية والعادية أو الاستثنائية، أو إشاعة الخوف من الفوضى. في ظلّ الهندسة الأمنية والسياسية للخوف تتحوّل الدساتير، وبعض ضماناتها الشكلية المحدودة إلى محض نصوص عارية من مضامينها تقيّدها القوانين، ويتم تعديلها وتمرير تعديلاتها ما شاء للحاكم شبه الإله عند القمة ومصالحه في تعديلها أو تغييرها عبر استفتاءات مزوّرة في الغالب الأعم بجمهوريات الخوف - وفق كنعان مكية – في العالم العربي.
في ظل جمهوريات الخوف الاستبدادية والتسلطية يهيمن مفهوم دمج السلطات الفعلي، ومصادر القوة والعنف المشروع عند الحاكم الأوحد نسبيًا!. من هنا يبدو مبدأ الفصل والتعاون بين السلطات محض نص عام لا فاعلية له في عمليات النظام، وتوزيعات القوة بين السلطات الثلاث!. من ثم يبدو مبدأ استقلال القضاء والقضاة مقيّدًا، وفي الوقت ذاته تغدو السلطة التشريعية والبرلمانات بوابات عبور لمشروعات القوانين المقدّمة من الحكومات، ويتمّ إصدارها ونشرها بالجرائد الرسمية. من ثم تضعف أدوار الرقابة والمساءلة التشريعية للسلطة التنفيذية في ظل هامشية بعض أو غالب أدوار البرلمانات العربية.
إنّ نظرة على بعض مجموعات القوانين في جمهوريات الخوف أو التهديد بإشاعته تُمكّنك، ولو بنظرة طائر، أن تستبين وتكتشف غياب رؤى أو فلسفات لسياسات تشريعية تحكم عمليات إعداد وصناعة التشريعات، وطبيعة المصالح الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تنحاز إليها السلطات التشريعية، أو محمولة على إدراك سياسي يتسم بالرشد والعقلانية لمعنى ورمزية دولة القانون والحق!.
هذا الغياب مرجعه الأساس غياب فلسفة وسياسات تشريعية لدى البرلمانات والسلطة التنفيذية، وذلك لعديد الأسباب ومنها ما يلي:
1- موت الأحزاب السياسية كنتاج لـ"لاسياسة"، وسطوة الحزب أو الائتلاف الحزبي السلطوي صنيعة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في ظل حكم الحزب الواحد أو التعددية الحزبية الشكلية والمقيّدة في ظل إغلاق ومحاصرة المجال العام السياسي المثقل بالقيود.
2- هامشية الأحزاب السياسية وتحوّلها إلى أحزاب مقار تتم فيها بعض أنشطتها وندواتها وبياناتها وصحفها دون نشاط جماهيري خارج المقر المركزي في الغالب الأعم.
3- غياب قواعد اجتماعية ترتكز عليها الأحزاب، وتمثّلها وتعبّر عن مصالحها الاجتماعية والسياسية، ومن ثم ليس لدى هذه الأحزاب سياسات تشريعية مضادة لتشريعات السلطة الحاكمة تأسيسًا على أنّ القانون ليس فقط تعبيرًا عن مصالح السلطة الحاكمة، وإنما إدراك سياسي ودستوري للقانون كأداة للتوازن بين المصالح المتعارضة وتغليب مصالح الأغلبيات الشعبية تحقيقًا للاستقرار الاجتماعي، وليس تعبيرًا عن السلطان المتغلّب.
4- تتشكّل الخلفيات الاجتماعية لأعضاء برلمانات السلطة الحاكمة من الظهير الاجتماعي للحاكم وأتباعه لا سيما في المجتمعات الانقسامية – الطائفية والدينية والمذهبية والعرقية واللغوية – وغالب هؤلاء يميلون إلى تبنّي مصالح جماعاتهم وبعض الموالين لهم داخلها، أو دعم تابعيهم داخل أجهزة الدولة البيروقراطية.
5- غالب الانتخابات البرلمانية يتم فيها التلاعب في اتجاهات التصويت للجماعات الناخبة، ويتم تزوير بعضها لغياب ضمانات واقعية وفعلية وإجرائية لحرية الجماعة الناخبة في الاختيار الحر، ناهيك عن ظواهر الاتجار وشراء الأصوات من المعسورين ومَن هم وراء دوائر الفقر. من هنا تخلّقت ظواهر الانفصال بين الجماعات الناخبة، وبين "الفائزين" رسميًا في هذه النظم الانتخابية الشكلية. لا توجد هنا علاقة بين النائب وقواعده الاجتماعية المفترضة في عديد الأحيان، ومن ثم لا يأبه بعضهم أو غالبهم كثيرًا بقواعدهم التي لا تحاسبهم وتراقب أداءهم البرلماني، ولا يفعلون شيئًا لهم سوى بعض المصالح لقلّة من أتباعهم وتيسير بعض الأعمال لا سيما في الأرياف أو البوادي.
ضعف الثقافة الانتخابية هي جزء من الثقافة الطغيانية في جمهوريات سياسة الـ"لاسياسة"
من هنا يستقر في إدراك ووعي ووجدان النائب أنّ الولاء هو للسلطة وآلياتها التي يسّرت ودفعت به لاكتسابه عضوية المجلس التشريعي. من هنا يبدو عضو البرلمان مطيعًا لمن أدخله البرلمان، ومن ثم لا يمارس وظائفه الرقابية على أعماله أو دوره الوظيفي في التقدم بمشروعات القوانين أو مناقشاتها أو إبداء الملاحظات والاعتراض على نصوصها، وخاصة ذات الطبيعة السياسية والمقيّدة للحريات العامة.
6- شكلت الاستفتاءات العامة تاريخًا من التلاعب السلطوي بالإرادة العامة، والانتخابات العامة وخاصة الرئاسية، ومن ثم لا توجد ثقافة انتخابية، من حيث الإجراءات والضمانات، وحيادية أجهزة الدولة المختصة، والنتائج الصحيحة.
ثمة أيضًا غياب للبرامج الانتخابية للمرشحين المستقلين والحزبيين، والبرامج التي تجمع بين القضايا العامة وتصورات لحلولها وبين قضايا الدوائر العشوائية الشعبية والهامشية في الأرياف، والمدن المريفة، والمناطق الحدودية. من ثم تبدو الانتخابات محض لعبة سلطوية يسيطر عليها المال والروابط العائلية والعشائرية والعرقية والقبلية في الدوائر الريفية والمذهبية.
7- ضعف الثقافة الانتخابية هي جزء من الثقافة السياسية الطغيانية والسلطوية في جمهوريات سياسة الـ"لاسياسة" حيث قيم الإذعان والامتثال والخضوع، ونمط من شبه العبودية السياسية لـ"المواطنين" - نظريًا لا فعليًا - وغياب القيم السياسية للحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والقواعد المؤسسة للمساواة وقواعد وحقوق المواطنة، وعدم التمييز بين المواطنين على أساس الدين والمذهب والعرق واللون والنوع الاجتماعي، وقيم العدالة وحقوق الإنسان كافة، والعدالة القانونية والجنائية والقضاء والقضاة المستقلين في حياد ونزاهة كمبادئ وازنة في نظام الثقافة السياسية والشرعية السياسية. وما يطرح في بعض الخطابات السياسية يبدو غائبًا في الحياة اليومية، ولا يدركها المواطن!.
كل ذلك وغيره يقود إلى تشريعات تحفز على سطوة "قانون" الفوضى والخوف والطغيان.
(خاص "عروبة 22")