بدأت تجربة محمد علي في بداية القرن التاسع عشر، واتّسمت على الخصوص بثلاثة مرتكزات كبرى: بناء الوطنية المصرية على أساس الهوية الخصوصية المستندة للسردية القومية النابوليونية (التي برزت خلال الحملة الفرنسية ١٧٩٨) في مواجهة السيطرة المملوكية العثمانية والأطماع الأوروبية، تحديث المؤسسات البيروقراطية العسكرية والمدنية، تحديث الاقتصاد من خلال الاستثمار الواسع في التقنيات الاتصالية الجديدة من سكك حديدية وقنوات بحرية.
لم تحُل تجارب التحديث والإصلاح دون الاستعمار الأوروبي في شكل أنظمة الحماية أو الاحتلال
وعلى الرغم من الخلاف الواسع بين المؤرّخين في تقويم تجربة محمد علي، لا خلاف على كونه رائد التحديث المصري وإن كان مشروعه عانى من خللين أساسيين هما: ضعف البناء السياسي وقصور الحسّ الاستراتيجي، بما حال دون نجاح هذه التجربة الواعدة التي شكّلت المحطة التأسيسية لمسار التحديث المصري.
أما تجربة خير الدين التونسي في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، فقد تميّزت ببُعدين أساسيين هما: الإصلاحات السياسية والدستورية التي كرّست فكرة المواطنة المتساوية والحقوق المدنية الحرة (عهد الأمان ودستور ١٨٦١)، والدفاع عن خط الإصلاح الديني والتجديد الفقهي لاستيعاب قيم التقدم والتنوير الأوروبي. ولقد حاول خير الدين باشا نقل تجربته الإصلاحية إلى الإمبراطورية العثمانية التي تولى فيها مسؤولية الصدر الأعظم في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، إلا أنه فشل في تطبيق مشروعه التحديثي وإن أحدث ديناميكية فكرية ظلّت حيّة وملموسة في الخطاب التحديثي والإصلاحي العربي الإسلامي.
أما تجربة السلطان المغربي الحسن الأول التي تمّت في نهاية القرن التاسع عشر، فقد هدفت إلى حماية البلاد من السيطرة الأوروبية التي كانت خطرًا محدقًا بالمملكة، وتحديث المؤسسات الإدارية والعسكرية للبلاد في اتجاه البناء المركزي وتأكيد سيادة ونفوذ الدولة في مجالها الإقليمي، ضمن مقتضيات الانفتاح الضروري على الحداثة الأوروبية.
في البلدان الثلاثة، لم تحُل تجارب التحديث والإصلاح دون الاستعمار الأوروبي في شكل أنظمة الحماية أو الاحتلال، كما أنّ مطامح التحديث الناجح لم تتحقق لأسباب ليس هنا مجال التعرض لها. لكن البلدان الثلاثة هي وحدها في العالم العربي التي قامت فيها نزعات وطنية قوية ودولة مركزية مستقرة وفاعلة قادرة على التعبير عن الهوية الجماعية.
في تونس شكّلت التجربة البورقيبية امتدادًا لمشروع خير الدين باشا مع تجذّر النزوع التحديثي في صيغة سلطوية أبوية تسعى إلى استيراد النموذج الأوروبي وتبيئته محليًا قبل أن تعيش البلاد في العشرية الأخيرة هزّة داخلية عنيفة لم تتضح بعد مآلاتها النهائية.
ديناميكية التحديث في القرن ١٩، أفضت إلى نماذج متمايزة تختلف باختلاف السياقات المحلية والعلاقة بالمحيط الدولي
وفي المغرب، تزامنت تجربة التحديث مع مسار الاستقلال الوطني، في نمط من الاستمرارية التاريخية أخذت شكل التفاعل الحي بين المؤسسة الملكية والقوى السياسية والمدنية في فترة حركة التحرّر الوطني، وفي ما تلاها من تجارب الإصلاح السياسي والدستوري ضمن قواعد التوافق الداخلي الشامل.
أما مصر، فقد عرفت بعد حركة يوليو ١٩٥٢ قطيعة تاريخية كبرى، نجم عنها تغيّر السردية الوطنية من مشروع التحديث السياسي والاجتماعي إلى مشروع الثورة الاجتماعية الكبرى ضمن مقاييس النهضة الذاتية المستقلة وما يترتّب عليها من تصادم مع الغرب المهيمن.
يمكن القول ختامًا، إنّ ديناميكية التحديث التي انطلقت في البلدان الثلاثة في القرن التاسع عشر، أفضت إلى نماذج متمايزة تختلف باختلاف السياقات المحلية والعلاقة بالمحيط الدولي، وإن كانت تلتقي في استراتيجية البناء الوطني التي لا تزال أفقًا مفتوحًا للمجتمعات العربية.
(خاص "عروبة 22")