لقد كان تحرير العالم العربي من الاستعمار والإقطاع والبرجوازية هو الهدف العام للناصرية الاقتصادية، حيث كان الاعتقاد أنّ القضاء على التخلّف الاقتصادي والاجتماعي يمرّ حتمًا عبر تحرير الجماهير الريفية الكادحة الزراعية من سيطرة الإقطاع الزراعي وتحرير العمّال من سيطرة البرجوازية الصناعية، ولن يتمّ ذلك إلا عبر التحرّر من هيمنة القوى الاستعمارية والقضاء على الامتيازات الاقتصادية التي منحها النظام الملكي لصالح الشركات الأجنبية.
واليوم في ذكرى وفاة الزعيم عبد الناصر، دعونا نفكّر في أين وصلت تجربة التحرير الناصري لمصر وللعالم العربي في ضوء المعطيات الموضوعية الاقتصادية والمؤسساتية المتوفرة اليوم، ومعها المعطيات حول التحرير الاقتصادي في العالم، لنعرف أين وصل العالم العربي في التحرير الاقتصادي؟ وكيف هي أوضاع الحرية الاقتصادية في البلدان العربية التي اتّبعت النهج الناصري مقارنةً بالبلدان التي كان تُسمّى بلدان الرجعية العربية مقابل بلدان التقدّم العربي في سنوات الخمسينات والستينات والسبعينات.
وحتى نقيّم مستوى التحرير الاقتصادي في العالم العربي ونقارن البلدان العربية مع باقي دول العالم، لجأنا إلى بيانات معهد فريزر (Fraser Institute) والمعطيات التي يوفّرها عن مستوى الحرية الاقتصادية في العالم، ويتعلّق الأمر بمؤسسة كندية مستقلّة وغير ربحية وغير حكومية.
اخترنا الاعتماد على هذا المعهد لقياس مستوى الحرية الاقتصادية لأنّ مفهوم الحرية الاقتصادية هنا يعني حرية الأفراد والأُسَر والشركات في الكسب والإنتاج والتبادل الاقتصادي مع الآخرين دون قيود إقطاعية أو بورجوازية أو نخبوية، وهو يناسب المفهوم الناصري للتحرير الاقتصادي من كل القيود والأغلال التي تكبّل الفرد وتمنعه من أن ينتج ويفيد الآخرين، ولأنّ الحرية الاقتصادية في نهاية المطاف تفيد الجماهير الكادحة لأنها توفر لها مداخيل أعلى وسلعًا رخيصة وبأثمان مناسبة في ظلّ عدم تدخّل نخبة احتكارية استغلالية وفق الرؤية الناصرية.
يعتمد معهد فريزر على أربعة مكوّنات ضرورية لوجود الحرية الاقتصادية في أي بلد، وهي عدم طغيان قطاع البيروقراطية الحكومية على الاقتصاد، توفّر دولة القانون التي تضمن للجميع حقوقه الاقتصادية، وجود مستوى مسيطَر عليه من التضخّم حتى يحافظ الناس على قدرتهم الشرائية، وأخيرًا، حرية التجارة الدولية حتى تتوفّر السلع الرخيصة والجيّدة في السوق المحلية ويتأمّن مستوى عال من حرية الأسواق (القرض، العمل والأعمال) التي تسمح للناس بالحصول على القروض من أجل الاستثمار وخلق أعمال تخلق وظائف وتُعطي حرية في عقود العمالة حتى يتمكّن الجميع من العمل.
البلدان غير الحرّة اقتصاديًا، تمتاز بقطاع بيروقراطي ضخم وحكم ضعيف لدولة القانون ولا تضمن عدالة مستقلّة ونزيهة
التقرير الذي أصدره معهد فريزر الكندي عن الحرية الاقتصادية في العالم في 2023، يُقسّم البلدان في العالم من حيث مستوى الحرية الاقتصادية إلى أربع فئات ولكن يمكن اختزالها إلى ثلاث فئات، أولاً فئة البلدان الحرّة، وفئة البلدان الحرّة جزئيًا، وفئة البلدان غير الحرّة، وتقع سنغافورة وهونكونغ وسويسرا ونيوزلندا والدانمارك وأستراليا والولايات المتحدة وإستونيا ضمن البلدان الأوائل في قائمة الدول الحرّة اقتصاديًا. وتوجد دولة عربية واحدة ضمن الدول الحرّة اقتصاديًا وهي دولة البحرين التي احتلّت المرتبة 39 ضمن 41 دولة حرّة.
حقّقت البحرين الدولة العربية الأكثر حرّية، حسب تقرير فريزر، نتيجة 7.47 نقطة في سلّم من 10 نقاط وتفوّقت على منونتنغرو وباناما والبرتغال، وتليها في الترتيب البلدان العربية الأخرى ضمن فئات البلدان الحرّة جزئياً.
ولدينا في قائمة البلدان الحرّة جزئيَا 7 بلدان عربية حققت نتائج جيدة في سلّم الحرّية الاقتصادية، وهي الأردن (المرتبة 46) والإمارات العربية المتحدة (المرتبة 49) وقطر (المرتبة 76) والسعودية (المرتبة 86) والكويت (المرتبة 88) وعُمان (93) والمغرب (المرتبة 99)، والبلدان العربية السبعة الحرّة جزئيًا هي أفضل ترتيبًا من بلدان مثل الصين والهند وروسيا والبرازيل (مجموعة "بريكس") وتركيا وفرنسا.
أما ضمن قائمة البلدان غير الحرّة، فتأتي باقي البلدان العربية (14 المتبقية) ضمن هذه الفئة، وهي بلدان عمومًا تقع خارج دول مجلس التعاون الخليجي. والبلدان العربية التي حققت ترتيبًا سيئًا في سُلّم الحرية الاقتصادية، سواء بالنسبة للعالم أو العالم العربي، هي بلدان تدلّ البيانات التي جمعها معهد فريزر الكندي أنها بلدان تضع قيودًا شديدة على الحرية الاقتصادية من خلال حزمة من السياسات التدخلية والحمائية، كما تمتاز بقطاع حكومي بيروقراطي ضخم وإنفاق حكومي كبير غير فعّال ومستوى ضريبي مرتفع، ومن جهة أخرى لديها حكم ضعيف لدولة القانون ولا تضمن عدالة مستقلّة ونزيهة في حالة النزاع ضد تعسّف الحكومة أو النخب النافذة، وهي بلدان فيها مستويات كبيرة من التضخّم الذي يضرّ بالقوة الشرائية للمدخرات والأموال التي في يد المواطنين، وفيها قيود على التجارة الدولية بحجة حماية الصناعة الوطنية من خلال الرسوم الجمركية العالية، وفيها قيود على حرية العمل وعلى حرية رأس المال وعلى حرية الأعمال.
وإذا نظرنا إلى البلدان العربية غير الحرّة سنجدها هي البلدان العربية التي رفعت شعار التحرّر السياسي والاقتصادي، وتخلّصت من أنظمتها الملكية التقليدية في الخمسينات بفعل موجة الناصرية السياسية والاقتصادية، وهي دول تتّبع إجمالًا النهج الاشتراكي شديد التدخّل الحكومي في الاقتصاد (مصر، الجزائر، سوريا، العراق، ليبيا، تونس) وتزيد النزاعات والحروب من تقييد الحرية الاقتصادية أو إلغائها في البلدان العربية التي بها حروب ونزاعات مثل سوريا واليمن والسودان.
البلدان العربية غير الحرّة اقتصاديًا تجعل من هدف سياستها الاقتصادية خدمة وحماية الجماهير الفقيرة، وهذا هو الهدف الذي سطّرته السياسة الناصرية منذ الخمسينات. ومعلوم أنّ السياسات الناصرية كانت سياسات حمائية وتدّخلية جاءت لحماية الجماهير من الاستغلال وتحرير الضعفاء من قبضة الأقوياء، لكن في النهاية ما حصل في الواقع أنّ السياسات الحمائية لم تحمِ الجماهير الريفية الفقيرة التي كانت تهدف لخدمتها، فضلًا عن الأضرار التي سبّبتها للنخب الاقتصادية التقليدية التي اتهمتها بأنها استغلالية وإقطاعية.
الحكم على السياسات الناصرية لا يعتمد على النوايا والأهداف، وإنما على المخرجات والنتائج المتوقعة وغير المتوقعة، الإيجابية والسلبية. والكثير من القرارات الناصرية كانت أهدافها نبيلة لكن انعكاساتها كانت غير متوقعة وسلبية، وهي حالة السياسات الاشتراكية عمومًا التي تهدف لخدمة الجماهير الفقيرة ورفع مستواها المعيشي لكن في نهاية المطاف تضرّ بالفقراء، فضلًا عن المتوسّطين والأغنياء، ما عدا القريبين من الحكومة.
السياسات الناصرية التي جرى استنساخها في عدة دول عربية تركت لنا إرثًا اقتصاديًا تمثّل في قطاع اقتصادي حكومي كبير ومترهّل ومبذّر للمال العام، وتقليد من الإنفاق الحكومي التبذيري غير الفعّال الذي لا ينفع الفقراء الذين يستهدفهم، ومستوى كبير من التضخم نتيجة طبع النقود لتمويل التنمية، والذي أضعف القدرة الشرائية للعمّال، إضافةً إلى دعم الصناعة بلا فعالية تجارية، ووضع قيود على التجارة الخارجية بهدف حماية الصناعة الوطنية التي أضرّت بالمستهلك الفقير الذي حصل على منتجات محمية محلية رديئة ومرتفعة الأسعار، وحماية زائدة لسوق العمل أضرّت بالشباب البطالين دون عمل، وأخيرًا، سياسة وضعت قيودًا على الرأسمال وساهمت في حرمان البسطاء من الوظائف التي يخلقها رأس المال، مع وضع قيود على الأعمال ساهمت في حرمان البسطاء من خلق فرص لأنفسهم ولغيرهم.
كان هناك إمكانية لتوجّه عبد الناصر نحو الليبرالية الاقتصادية، لكنه اختار النموذج السوفياتي كرد فعل على العدوان الثلاثي
ربما قد يكون عبد الناصر شعر في النهاية بخيبة أمل في النتائج المحققة لخياراته الاشتراكية، لأنه في البداية لم يكن له تصوّر واضح حول السياسة المناسبة لخدمة الجماهير الكادحة، والدليل التاريخي على ذلك هو أنّ حكومته الأولى قامت في السنة الأولى لها بدعوة أكبر اقتصادي ليبرالي معروف في الخمسينات، وهو فريدريك فون هايك، المعروف بدفاعه عن حرية الأسواق ودولة القانون، الذي حصل على نوبل للاقتصاد في 1974.
ماذا لو أخد عبد الناصر بنصائح فريدريك هايك، ربما لو حصل ذلك الأمر لتغيّر حال مصر إلى الأفضل ومعها كل العالم العربي الذي كانت تقوده. من الواضح أنه كان هناك إمكانية لتوجّه عبد الناصر وأصدقائه الثوار نحو الليبرالية الاقتصادية، لكن العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 جعل عبد الناصر يُغيّر الاختيار ويتّجه نحو اختيار النموذج السوفياتي وترك النموذج الليبرالي كرد فعل على العدوان.
مؤكد أنّ هذا الاختيار جاء كرد فعل حينها على سياقات سياسية واستراتيجية، لكنه من منظور اقتصادي - اجتماعي، كان الخطأ القاتل الذي ارتكبه جمال عبد الناصر في حقّ شعبه وشعوب المنطقة رغم أنّ نواياه كانت طيّبة، وكان رجلًا فاضلًا محبوبًا لدى الجماهير، لكن السياسات بعواقبها وليس بنوايا أصحابها.
(خاص "عروبة 22")