تبـدو الأولى أكـثـر "توازُنـًا" من هـذه الأخيرة الرّعـناء، على الأقـلّ لجهـة مساواتـها المعتـدي والمُـعْـتَـدى عليه في وجـوب وقْـفِ العنـف وشـدِّ الرّحـال إلى "السّـلام". لكـنّـها لا تخـتـلف عن الأخـرى في تنـكُّـبـها عن العـدالة في توزيـع المسؤوليّـات بين الجـلاّد والضّـحيّـة، بين الاحتـلال والشّـعـب المحتــلّـة أرضُـه، ذاهلةً عن أمّ الحقائـق في المسألة وهي: أنّ الاحتلال هو الدّرجـة العـليا في العنـف والعدوان... والإرهـاب، وأنّ إزالتـه واجـبٌ وطـنيّ على الشّعب المعـرَّض لـه، وواجـب إنسانـيّ على البشريّـة رُمّـةً لتطبـيـق القانـون الدّولـيّ.
اتفاق أوسلو جاوز اليـوم الثلاثين عامًا من دون أن يقع تفقيسُ بَيْضتِه وإخراجُ الدولة "الموعودة" من وراء قشورها
نـذكِّـر دعاةَ نَـبْـذ العـنـف - ممّـن ليسوا في زمرة ناعِـتي المقاومـة بـ"الإرهـاب"- ومـمّـن يـوحُـون ببعـض "التّـوازن" في المـوقـف - بأنّ الحـركـة الوطنيّـة الفلسطـيـنيّـة لم تكن، يومـًا، تقـدِّس السّـلاح والعمـل المسلّـح على الرّغـم من عِـلْـمها بأنّ أرض شعب فلسطين إنّما سُـلِبتْ منه بقـوّة السّلاح، بل لقد كان العمل السّـياسيّ واحدًا من خياراتها جنبـًا إلى جنب مع المقاومـتـيـن المسلّـحـة والشّـعـبيّـة، حتّـى أنّـه أتـى عليها حينٌ من الدّهـر لم تعد تـتوسّـل فيه السّلاح أو قُـلْ، استـدراكـًا، في المقام الأوّل. كان ذلك بعـد خروج قـوّات الثّـورة الفلسـطيـنيّـة من لبـنـان - عقـب حـرب العام 1982 وحصار بيـروت - واعتمادها خـيار العمل السّياسيّ الذي زوّدتـه انتـفاضـةُ العام 1987 بمورد قـوّةٍ استراتيجيّ بـدّدتْـهُ قيادةُ منظّمـة التّحرير في "اتّـفاق أوسـلو" المـشؤوم.
حين أُجـبِـرت قيـادةُ "م. ت. ف" على الدّخـول في مفاوضات واشنطـن المتـفـرّعـة من "مؤتمـر مدريـد" (1991)؛ وحين استُـدْرِجـت إلى مسارٍ تفاوضـيّ مـوازٍ وسـرّيّ في أوسـلو- انتـهى بها إلى التّـوقيع على اتّـفاق الحكـم الذّاتـيّ مع "إسرائيل" والاعـتراف بها كيانًا مشروعـًا! (1993)!- كانت، عـمليّـًا، تـنـغـمـس عميـقـًا في بـرْكـة التّـسويّـة ومائِـها الآسـن. وهكذا فالاتّـفـاق الذي كان ينـصّ على حـلٍّ نـهائيّ يُـصَـار إليه، بعد خمسة أعـوام من تطبيـقـه، في شكـل دولـةٍ مستـقـلّة جاوز، اليـوم، الثّلاثيـن عـامـًا من دون أن يقع تفـقـيـسُ بَـيْـضـتِه وإخراجُ الدّولة "الموعودة" من وراء قـشورها؛ كـلُّ الذي تَـوَلّـد من هذه السّنوات الثّلاثيـن العجاف هو المزيدُ من سرقـة الأرض، وبناءِ المستوطنات، وتوسيعِ القائـم منها، والمزيـدُ من القـتـل، والقمع، والاعتقالات، وهـدْمِ الدُّور، وتـهويدِ الأماكـن المـقـدّسـة المسيحيّـة والإسلاميّـة، وإبادةِ أهـل غـزّة في حروبٍ متعاقـبة وتشديدِ خنـاق الحصار عليها...! فإلى أيِّ مـآلٍ، إذن، آلت سياسةُ العمل بمبدأ البحث عن تسـويـةٍ من طريق المفاوضات؟!
ماذا نَفَع الفلسطينيين أن يسيروا في خيار التسوية وماذا نَفَع الاحتلال السّيْرُ في طريق الدّم والهدم والقتل والحصار؟
ولقد يقال إنّ هـذه السّيرة السّياسيّـة سيرة خاصّـة بـ"فتـح" ومنظّـمة التّـحرير، ولا علاقة لِـ"حماس" و"الجهاد الإسلامي" بها: أي للـمـنظّمتيـن اللّـتيـن لا تؤمنـان بالتّسويـة السّياسيّـة مع "إسرائيـل"، واللّتيـن تتمـسّكان بخيار المقاومة. وهذا، عـندي، استدراكٌ باطـل؛ وآيُ ذلك أنّ حركـة "حماس" - متـسـلِّحـةً بـپـراغـماتـيّـتها السّياسيّـة - قَبِـلَت عـمليّـًا، وإنْ جـزئيّـًا، بالمؤسّسـات التي نصّ عليها - وأَحْـدَثها – "اتّـفاقُ أوسـلو": السّـلطـة الفلسطـينيّـة، والمجلس التّـشريعيّ، والحكومة... فشاركت في الانـتخابات والحكومة وأدارت السّلطة في غـزّة - أُسـوةً بـ"فـتح" في الضّـفّـة الغربـيّـة - واتّـفـقت مع "إسرائيل" - عـبر مصـر- على وقـف إطلاق النّـار أكـثر من مـرّة وعلى تبادُل الأسرى... وبكـلمة؛ مارسـتِ السّياسـةَ والعـمل السّياسيّ شأن أيّ حركـة أو سلطـة أخـرى.
وعليـه، ماذا نَـفَـع الفلسـطينيّـين أن يسيـروا - مثـل العُـميـان - في خيـار التّسويـة من جانـبٍ واحـد (من غـيرِ مفاوِضٍ حـقـيقـيّ في مقابِـلهـم)!؛ وماذا نَـفَـعَ دولـةَ الاحتلال - ونُـخبَـها الإرهابيّـة اليميـنيّـة المتطـرّفـة - السّـيْـرُ في طريق الدّم والهَـدْمِ والقـتـل والحصار؟ الفريـقان مـعًا كـانا - كـلٌّ بطريقـته - يمهّـدان الطّـريق للمقاومـة نحو كَـسْـر هـذه الحلقـة في ذلك اليـوم التّاريـخيّ الواقع بتاريخ 7 أكتوبر 2023.
(خاص "عروبة 22")