بصمات

في تجربة الدولة العربية الحديثة (3/2)رجال الدولة الوطنية ومؤسّساتها

إذا أردنا أن نرجع إلى أصول الدولة الوطنية الحديثة ينبغي أن نترصّد المحاولات الإصلاحية المبكرة. مع الأخذ بالاعتبار أنّ أغراض الإصلاح ودوافعه كانت عسكرية أمام الانكشاف العام أمام القوة الأوروبية. حدث ذلك في استامبول في وقت مبكر في مطلع القرن الثامن عشر إثر هزيمة عثمانية مدوية وتتابعت بعد ذلك محاولات الإصلاح مع السلطان سليم الثالث هو أول من أقام قوات نظامية على النمط الأوروبي 1793 ثم مع السلطان محمود الثاني الذي قضى على قوات الانكشارية عام 1826.

في تجربة الدولة العربية الحديثة (3/2)
رجال الدولة الوطنية ومؤسّساتها

في البلاد العربية كان أول من أقام تجربة إصلاحية هو محمد علي باشا والي مصر (1805-1849)، الذي اختاره المصريون ليكون حاكمًا عليهم، وذلك بعد الفوضى السياسية إثر الحملة الفرنسية على مصر (1798) والتي أظهرت ضعف قوات المماليك وأساليبها القتالية التقليدية.

من المعلوم أنّ محمد علي باشا قد شرع في بناء جيش نظامي من أبناء مصر، وذلك بعد أن قضى على خصومه المحليين. إن بناء جيش نظامي يحتاج إلى إدارة حديثة وإلى مصانع ومانفكتورات لخدمة هذا الجيش، التي لا تقتصر على المصانع العسكرية بل تتعداه إلى مصانع الألبسة والأحذية وتموين الجيش الغذائي. وكل ذلك يحتاج إلى إدارة من رجال مدرّبين وذوي خبرة، لهذا أرسل البعثات التعليمية إلى أوروبا، وافتتح مدارس لتخريج إداريين للجيش والمرافق الأخرى. يضاف إلى ذلك الخدمات الصحية. وإذا أخذنا بالاعتبار تطوّر التجارة والزراعة في عهده، فإنّ محمد علي باشا قد مهّد الأُسُس المؤسّساتية لدولة إقليمية لها بُنيتها الإدارية وجيشها، يُضاف إلى إنشاء طبقة من الملّاكين بعد أن وزّع الأراضي على الذين خدموا دولته، وبذلك نشأت طبقة من الأعيان الذين سرعان ما تمصروا في غضون نصف قرن من الزمن.

مصر كانت في القرن التاسع عشر مثالًا متقدّمًا في بناء أُسُس الدولة الوطنية

صحيح أنّ معاهدة لندن قد أجبرت محمد علي على تقليص جيشه إلى بضعة آلاف، الأمر الذي أدى إلى إقفال أغلب المصانع التي ارتبط انتاجها بخدمة الجيش، إلا أنّ الأساس البيروقراطي لم يندثر، ولهذا كان من الممكن أن يتابع حفيده الخديوي إسماعيل الذي وطّد دعائم الدولة الإقليمية من خلال إعادة بناء الجيش وتطوير الإدارة إلى ما يشبه إقامة حكومة (النظار) وانتشار التعليم وتكوين فئة واسعة من المتعلّمين. وكان أبرز هذه المدارس مدرسة الحقوق التي أنشئت تحت اسم مدرسة الإدارة والألسن عام (1868) لتستقل تحت اسم مدرسة الحقوق (1886).

كان رجال دولة محمد علي من أصول غير مصرية، أتراك وشركس وألبان وأرمن مع عدد من المصريين، كانوا يتنقلون بين الخدمة العسكرية والخدمة الإدارية. أما في عهد إسماعيل فإنّ الوظائف أخذت بالتمايز، فانفصل التعليم عن العسكرية. ونشأت نخبة متعلّمة تمارس مهن التعليم والصحافة والأدب. ولكن إنشاء مدرسة الحقوق سيؤدي إلى نشوء نخبة قانونية سيكون لها الدور الرئيسي في مستقبل مصر مع مطلع القرن العشرين.

لا شك بأنّ مصر كانت في القرن التاسع عشر مثالًا متقدّمًا في بناء أُسُس الدولة الوطنية والتي تمثّلت بإنشاء جيش من أبناء البلاد، وإنشاء بيروقراطية إدارية متخصّصة وحديثة، وبناء نظام تعليمي سيخرّج أولئك الذين سيصيغون مفهوم الوطنية ويضعون بعد ثورة 1919 دستور البلاد.

وخلال القرن التاسع عشر يمكن أن نشير إلى بعض التجارب العربية التي شهدت محاولات لبناء تجارب إصلاحية، وأبرزها تونس في عهد الباي محمد الصادق (1859-1882)، الذي عمل على تحديث الإدارة، وأعلن أول دستور للبلاد "عهد الأمان" عام 1861، وأنشأ محاكم مستقلّة وأعلن المساواة بين المواطنين، وبرز في عهده الوزير خير الدين التونسي الذي دعا إلى الأخذ بالتقدّم الأوروبي في كتابه: أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك. لكن عهده انتهى باحتلال فرنسا لتونس عام 1881، علمًا بأنّ عهد الخديوي إسماعيل انتهى بنفيه من البلاد قبل احتلال انكلترا لمصر بثلاث سنوات عام 1882.

وإذا اعتبرنا أنّ الإصلاح هو الأصل في بناء الدولة الوطنية، فإنّ التجربة اللبنانية تبرز وجهًا آخر للإصلاح. لم يشهد جبل لبنان محاولات لبناء جيش نظامي، إلا أنّ بيروت قد شهدت نهضة تجارية وأدبية جعلت منها مدينة حديثة أهّلتها لتكون مركزًا لولاية (ولاية بيروت 1888) قبل أن تصبح عاصمة لدولة لبنان.

شهد العراق وسوريا بدايات إصلاحية في عصر التنظيمات، الذي أشرنا إليه سابقًا. وقد لعب الوالي مدحت باشا (أبو الدستور العثماني) دورًا بارزًا في إصلاحات أولية في كلا البلدين.

إنّ النظام الإداري المحدث في عصر التنظيمات نصّ على إنشاء مجالس إدارة في الولايات، التي كانت أشبه بحكومات إقليمية، وقد أسهمت هذه المجالس بتكوّن بيروقراطية إدارية يرفدها نظام البلديات الذي ظهّر القيادات المحلية.

الخرّيجون الذين حكموا سوريا والعراق حتى نهاية الخمسينات بنوا الجيش الذي سينقلب عليهم في الصراع على السلطة

وبالرغم من أنّ التجارب الإصلاحية في البلدان العربية تنتمي إلى حقبة التنظيمات إلا أنها تختلف تبعًا لظروف كل بلد. ففي لبنان كان للدور التجاري والانفتاح على التعليم الأثر في التحديث وتبلور نخبة من خرّيجي الجامعة الأميركية وجامعة القديس يوسف اللتين خرّجتا أدباء وأطباء وحقوقيين سيشكلون واجهة لبنان في مطلع القرن العشرين. مع الأخذ بالاعتبار أنّ مدرسة الحقوق في جامعة القديس يوسف (اليسوعية) ستخرّج كل رجال الدولة في لبنان الذين حكموا لبنان حتى ستينات القرن العشرين.

إنّ النخب العراقية والسورية هي التي تخرّجت من الكلية العسكرية أو مدرسة الحقوق في استامبول التي تأسّست عام 1870، وذلك قبل أن تفتتح مدرسة حقوق في بغداد عام 1908، وأخرى في دمشق عام 1913. هؤلاء الخرّيجون الذين حكموا سوريا والعراق حتى نهاية سنوات الخمسينات من القرن العشرين، هم الذين شكّلوا البيروقراطية الإدارية وأنشأوا النظام التعليمي وبنوا الجيش العراقي والجيش السوري الذي سينقلب عليهم في الصراع على السلطة في الدولة الوطنية.


لقراءة الجزء الأول: في تجربة الدولة العربية الحديثة (3/1)

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن