تقدير موقف

الآثار قصيرة المدى وبعيدة المدى لـ"طوفان الأقصى" (2/2)سقوط الأساطير القديمة وبزوغ شرق جديد

مقارنةً بالآثار قصيرة المدى التي تمّت الإشارة إليها فور يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول العظيم الحالي، فإنّ تقدير الآثار طويلة المدى لـ"طوفان الأقصى" يحتاج تحوّطًا أكبر، فنحن نتحدث عن حرب لم تضع أوزارها بعد، أو بالتعبير القديم لا بدّ أن تسكت المدافع وينجلي دخان المعارك أولًا قبل أن نحسب إلى أيّ شرق أوسط جديد سيقودنا الزلزال الجديد.

الآثار قصيرة المدى وبعيدة المدى لـ

الأمر لا يتوقف على جبهة الحرب الحالية، إذ إنّ تطوّر سلوك الأطراف الإقليمية، خاصة إيران و"حزب الله" اللبناني، في نصرة أو عدم نصرة المقاومة وتحويل المواجهة إلى جبهات متعدّدة أم لا، سيكون له تأثير بالغ في تحديد نتائجها النهائية. كذلك سيكون للمواقف الروسية والصينية دورها، خاصة إذا ظلّت بكين وموسكو عالقتين في مرحلة الحذر والتهيّب من إثارة الأسد الأمريكي وشبله الإسرائيلي الجريحين الباحثَين عن "انتقام شمشوني".

رغم هذا كلّه، يغامر هذا المقال بمحاولة تلمّس الآثار بعيدة المدى التي قد تشهدها المنطقة أيًا كانت النتيجة التي ستنتهي إليها حرب الإبادة الإسرائيلية/أمريكية الحالية على غزة. ويركّز في هذه الآثار على فكرة أنّ هجوم "طوفان الأقصى" سيقود إلى سقوط ركام أساطير هائلة هيمنت على المنطقة وشلّت العقل والإرادة العربيّين منذ زيارة الرئيس المصري أنور السادات للقدس وما تلاها من اتفاقات كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة والاتفاقات الإبراهيمية.

1- السقوط الأخير لنظرية الأمن الإسرائيلي:

 في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 سقطت أسطورة  نظرية الأمن الإسرائيلي القائمة على ردع العرب عن شنّ هجوم عليهم، فإذا تجاوزوا الردع وهاجموا سيكون مصيرهم أن يهزمهم الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر شرّ هزيمة. لكنّ السياسة التي خانت السلاح - بتعبير الأستاذ هيكل - وقدّمت النصر على طبق من فضّة لكيسنجر وإسرائيل، أدخلت المنطقة في عصر الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية، وتراجعت وشحبت في الذاكرة العربية فكرة القدرة على الانتصار وحلّ محلّها الشعور بالعجز عند الشعوب، والشعور بالرضوخ  للأمر الواقع لدى النظام العربي الرسمي.

هُزمت إسرائيل وانكشفت وعادت مرّة أخرى إلى حال الرعب والخوف من الزوال

جاء هولاء الفتية من غزّة ليعيدوا إسقاط هذه الأسطورة وللأبد، فهُم منظّمة محدودة لا تُقارَن أعدادها وأسلحتها بالأعداد والترسانة الإسرائيلية، وهُم كبّدوا الاحتلال في يوم واحد أكبر خسائر بشرية عرفها في تاريخه. مهما فعلت إسرائيل بعد ذلك في غزّة لن تستطيع أن تسرق لحظة النصر في ٧ أكتوبر/تشرين الأول من الفلسطينيين، فقد كتبها التاريخ، كما لن تستطيع محو هزيمتها فقد هُزمت وانكشفت وعادت مرّة أخرى إلى حال الرعب والخوف من الزوال.

2- سقوطة نظرية إبادة "حماس" والمقاومة:

فمهما فعلت إسرائيل وأمريكا فإنهما لن ينجحا نجاحًا كاملًا في تحقيق الهدف الاستراتيجي الذي حدّدته واشنطن وتل أبيب لحربهما الراهنة على غزة، الذي يستهدف إبادة "حماس" واقتلاعها من أرض غزّة وإحلال قيادة فلسطينية معتدلة في القطاع على غرار السلطة الفلسطينية في رام الله. فهو هدف سعت إليه في حربين سابقتين على القطاع وفشلت فيهما.

وحتى قطع "رأس حماس" الذي بات أكثر استخدامًا، أي اغتيال صفّها القيادي، فقد جرّبته كثيرًا واغتالت بين عام ١٩٩٣ وعام ٢٠٢٣ الحالي أكثر من ١٦ قياديًا كبيرًا من بينهم المؤسّس السياسي أحمد ياسين، والعسكري صلاح شحادة، مرورًا بعياش والرنتيسي.. إلخ.   وباستخدام تعبيرات الفريق الاسرائيلي المعارض لنتنياهو: "لقد نما محلّ كلّ رأس قطعناه رأسان، أما بنية "حماس" و"الجهاد" العسكرية التي زعمنا عدّة مرّات أننا دمّرناها فقد زادت في الحقيقة عشرات المرّات لدرجة أنها نقلت الحرب لأوّل مرّة منذ ١٩٤٨ إلى أرض إسرائيل".

3- سقوط نظرية الهوس بالتكنولوجيا وإعادة الاعتبار لروح الكفاح الإنساني:

اتّفق المحلّلون على أنّ أحد أسباب الإخفاق الشنيع للجيش الإسرائيلي في التنبّؤ بهجوم "حماس"  هو الاعتماد المفرط على التكنولوجيا التي توافرت للجدار الذي تكلّف ما يزيد عن مليار دولار على حدود غزة مزوّدًا بأحدث آليات المراقبة والتجسّس، وقد انهارت كل هذه التكنولوجيا المتقدّمة في دقائق بتكنولوجيا بسيطة.

أعادت عملية "طوفان الأقصى" الاعتبار للحرب كعمل بشري يمكن أن تعوّض فيه الجسارة والشجاعة والكتمان والمفاجأة كل الفروق النوعية، لتهزم الأقوى المتحصّن، وتمنح النصر للأضعف المقدام. وتعيد الاعتبار لحقيقة أنّ روح الكفاح والنضال لوحدها هي نصف الفوز في أيّ حرب، يقول معلق إسرائيلي هذه الأيام: "هذا شعب مستعصٍ على الهزيمة، فهم يحبّون الموت  كما نحبّ نحن الحياة".

4- سقوط أسطورة العقلانية التامة في قرارت السياسة الخارجية للدول الكبرى:

 الرد الاستراتيجي الأمريكي بالانحياز التام لإسرائيل، كان في جزء كبير منه تعبيرًا عن عقائد الأمن القومي الراسخة والتي تفهم وجود إسرائيل كدولة وظيفية تضمن مصالح الغرب في المنطقة. لكن كان هناك جزء لا يمكن تجاهله، ألا وهو وجود عناصر يزعم الغرب أنه تمكّن من تخليص عملية صنع القرار منها، وتتعلّق بالمشاعر الدينية الناتجة عن اكتساح ما يُسمّى بـ"المسيحية الصهيونية" للحزبين والإدارة في أميركا، إذ تحدّث بلينكن عن أنّ أحد أسباب جولته في المنطقة أنه "جاء كيهودي".

جاء "طوفان الأقصى" ليجعل أساطير نتنياهو بيتًا من رمال

وهناك عناصر تتعلّق بالانتهازية السياسية، فالتهوّر الزائد للإدارة في الدعم الأمريكي المطلق للوحشية الإسرائيلية يغازل اللوبي اليهودي في عام الانتخابات الرئاسية الذي يحلّ بعد شهور.

٥- سقوط أسطورتَي نتنياهو وأبو مازن كزعيمين للشعبين الإسرائيلي والفلسطيني:

بالنسبة إلى أبو مازن الذي نُظر إليه في البداية كخليفة للزعيم التاريخي ياسر عرفات، فقد أثبت زلزال طوفان الأقصى الأسطوري الذي تزامن مع مرور ٣٠ سنة من خيبات اتفاق أوسلو وتدميره للأراضي الفلسطينية لصالح المستوطنين وتحويله السلطة لمخفر متقدّم، أثبت أنّ خيار المقاومة  وليس خيار التنسيق مع المحتل هو الخيار الصحيح ما لم يتم البدء في حل عادل للقضية الفلسطينية. وقد تنتقل قيادة الشعب الفلسطيني غير بعيد إلى أجيال أخرى وقيادات أخرى.

كذلك، وبتعبير الصحفي الشهير سيمور هيرش، فإنّ نتنياهو انتهى سياسيًا، فهذا الرجل الذي حكم إسرائيل قرابة ربع قرن وزرع أسطورة أنه حامي وجود إسرائيل ومحقّق ردعها ومنعتها الأمنية  وتفوّقها على كل جيرانها، بالاضافة لما نجحت فيه من تمدّد إقليمي ودولي، جاء "طوفان الأقصى" ليجعل أساطيره "كملك لإسرائيل" بالمعنى التوراتي بيتًا من رمال، وظهر كأكثر قائد في تاريخ الدولة عرّضها وجوديًا للخطر.


لقراءة الجزء الأول: الآثار قصيرة المدى وبعيدة المدى لـ"طوفان الأقصى" (2/1)

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن