اقتصاد ومال

"المَـكْر السياسيّ" لصندوق النّقد والبنك الدوليّين

انتهى اللّقاء السنوي لصندوق النّقد والبنك الدوليين المُنعقد في مراكش إلى خلاصات قد يبدو ظاهرها واضحًا وعملانيًا؛ ولكنّه لا يحمل في العمق إلاّ شعارات ووعودًا للاستهلاك الإعلامي كما هي عادته. لأنّ الأساس الذّي يحكمهما اقتصادي وسياسي تضبطه إيديولوجية ليبيرالية متوحّشة تتوخّى إثقال الدّول المغلوبة على أمرها بالدّيون الجاثمة على الأنفاس وإفقار شعوبها. ومن ثمّة، إيقاعها في تبعيات أقلّ ما يُقال عنها إنّها سالبة للحريّة والسيّادة.

لا بدّ من التّذكير بأنّ هذا اللّقاء جاء في سياق خاص يتميّز باختناق اقتصادي ومالي دولي، وباضطراب جيوسياسي، وبتحدّ بيئي يتمثّل في أخطار المناخ وتبعاتها على الإنسان. كلّ هذه الإكراهات ليست غائبة عن صندوق النّقد والبنك الدّوليين. أمّا نظرتهما إلى التّعامل معها ومعالجتها لا تخرج عن إرادة أمريكا ومصالحها الضيّقة، باعتبارها صاحبة الحصّة المسيطرة في الإدارة واحتكارها لسلطة لا ينازعها فيها أحد.

وحتّى نوضّح شكلية هذا اللّقاء على غرار سابقيه، يستحسن عرض بعض توصياته مع مناقشتها لبيان الوجه الإيديولوجي والسياسي للولايات المتّحدة الذّي لا تتغيّر إلاّ أشكاله وطرق بروزه بحسب الظّرفيات والأحداث. فالخروج بتوصية الزّيادة في حصص الدّول الأعضاء بهدف تقوية الصّندوق لمواجهة الأزمات المرتقبة، كانت متذبذبة وغير واضحة، لأنّه لم يتمّ الإتّفاق على تأخير تغييرات في ملكية الأسهم التي قد تمنح الصين مزيدًا من التأثير، وذلك بضغط من الولايات المتحدة.

اجتهد مسؤولو صندوق النّقد والبنك الدوليين في تحاشي التصدّي لوقائع الحرب ضدّ غزّة

وتجنّبًا للحرج تمّ العمل بتوصية مواصلة النّقاش على مدى الشّهرين القادمين. في الإتّجاه نفسه، تمّت الموافقة على "رؤية صندوق النقد لخلق عالم خالٍ من الفقر وقابل للعيش" مدمجًا في هذه الرؤية استراتيجية مكافحة تغيير المناخ. كما تمّ الاتفاق على ما أُطلق عليه التدابير الجديدة الساعية إلى تمكين استخدام رؤوس "الأموال الهجينة من الدّين" وإطلاق منصّة جديدة لضمان الأرصدة التي بإمكانها الوصول إلى مائة مليار دولار من القروض الجديدة على مدى عقد.

ما يؤكّد ديماغوجية شعار "خلق عالم خالٍ من الفقر وقابل للعيش" والازدواجية المتناقضة في خطاب المؤسّستين، عدم توصّلهما إلى توافق حول الصّراع في الشّرق الأوسط وما تعانيه غزّة من وحشية الهجوم الإسرائيلي على مدنييها العزّل. وحتّى لا تنزاح اجتماعات هذا اللّقاء إلى التّنديد بجرائم إسرائيل، اجتهد مسؤولو صندوق النّقد والبنك الدوليين في تحاشي التصدّي لوقائع وتطورات الحرب ضدّ غزّة، بل السّعي إلى الدّفع بإدانة "هجوم حماس" وتحميلها مسؤولية الحرب. كما تمّت عرقلة نشر بيانات مشتركة لقادة مجموعة العشرين المالية حول الحرب الدّائرة بين روسيا وأوكرانيا، تجنّبًا لأي موقف قد يسير في الاتّجاه المعاكس للرؤية السّياسية لأمريكا واستراتيجيتها في الشّرق الأوسط وآسيا.

تعطّش الولايات المتحدة لمصالحها سيدفعها إلى من المزيد من التحكّم في صندوق النّقد والبنك الدّوليين

ولمحورة اللّقاء حول الخطّة التي رسمها صندوق النّقد، تمّ توجيه النّقاش إلى التّنصيص على توقّعاته الجديدة التّي وُقّعت قبل حرب إسرائيل على غزّة، للتخويف من المخاطر الاقتصادية المحتملة في حالة اتّساع رقعة الحرب في الشّرق الأوسط، في ظلّ اقتصاد عالمي هشّ وبطيء.

لكنّ المؤكّد أنّ التوافق السياسي الذّي يخدم الشعارات المعلنة في هذا اللّقاء وغيره مما سيأتي، سيظلّ معطّلًا ما دامت الولايات المتّحدة متعطّشة إلى مصالحها الضيّقة، وأنّ تبعات الحرب بين أوكرانيا وروسيا، ومسؤوليتها السياسية في التحجّر التّجاري العالمي والتوتّرات بينها وبين الصّين وانحيازها غير العادل إلى إسرائيل، سيدفعها إلى من المزيد من التحكّم في صندوق النّقد والبنك الدّوليين. ولن تكون اجتماعاتهما إلاّ شكلية تفرض فيها سياسة الواقع وتعطّل بروز اقتصادات منافسة، كتأخيرها قبول زيادة حصص الصّين والبرازيل خلال لقاء مراكش.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن