بصمات

في تجربة الدولة العربية الحديثة (3/3)الصراع على الدولة الوطنية

لا بدّ للفكرة الوطنية التي يعبّر عنها المثقفون والكتّاب في الصحف، ويعبّر عنها سياسيون في خطبهم، من أن تكون مشروعًا لقوى اجتماعية يتماهى وعيها كفئة أو طبقة مع فكرة الوطن.

في تجربة الدولة العربية الحديثة (3/3)
الصراع على الدولة الوطنية

ففي مصر، عبّر الملاكون وأعيان الريف، الذين كانوا يشكّلون الأغلبية في الجمعية العامة (مجلس شورى القوانين) عن كونهم الفئة التي تمثّل مصالح مصر في الدستور والاستقلال.

وقد أسهم هؤلاء في تأسيس حزب الأمة (1908)، الذي كان أحمد لطفي السيد أمينه العام ومفكره. وكان اتجاه حزب الأمة هو الاستقلال بمصر ككيان غير مرتبط بسواه أو بأي امتداد. وبرز الحزب كنقيض للحزب الوطني الذي كان بزعامة مصطفى كامل الذي تأسّس في الفترة نفسها، والذي كان يرى أنّ مصلحة مصر أن تبقى على علاقتها بالدولة العثمانية.

وفي الفترة اللاحقة لثورة 1919، وبعد أن برز حزب الوفد الذي يحظى بالتأييد الشعبي، تأسّس حزب الأحرار الدستوريين، وريث حزب الأمة، كمنافس لحزب الوفد على السلطة. إلا أنّ الحزبين كان يشتركان في منطلقاتهم الليبرالية التي تجلّت في الثقافة السياسية، والالتقاء على إبعاد الدين عن السياسة.

والواقع أنّ نفوذ الأزهر كان قد بدأ بالانحسار مبكرًا في عهد محمد علي، وفي عهد إسماعيل أوجدت المؤسسات التعليمية التي تنافس الأزهر في مجاله الحيوي، أي التعليم. كما أنّ الاتجاه الإصلاحي فقد رائده بوفاة الإمام محمد عبده (1905). لهذا يمكن أن نعتبر العقدين الأولين من القرن العشرين سنوات الليبرالية الظافرة في مصر التي استطاع رجالها أن يقيّدوا حركة الأزهر بالقوانين وأن يجدوا منافسًا حديثًا له تمثّل في جامعة القاهرة.

وإذا كانت الطبقة النافذة في مصر تمثّلت بالملاكين وأعيان الريف، فإنّ المقارنة مع سوريا تظهر لنا أنّ البيئة المجتمعية كانت تتكوّن من التجّار والملاكين ذوي الأصول المدينية، والتي كانت تتمثل بالأحزاب الوطنية التي نشطت في فترة الحكومة العربية (1918-1920)، وقادت معارك الاستقلال في فترة الانتداب الفرنسي، وعملت على توحيد سوريا التي قسّمها الفرنسيون إلى أربع دول.

تعرّضت برجوازية أهل المدن الحاكمة، لضغوط من البيئات المحدودة الدخل والبيئات الريفية

كما أسهمت في بناء المؤسسات التعليمية والحقوقية والعسكرية. وكانت واقعة تحت تجاذب مشروعين، الأول هو بناء الدولة الوطنية المستقلة، والثاني هو العمل من أجل الوحدة العربية.

هذا الصراع الكامن بين نوازع الاستقلال من جهة ونوازع الوحدة العربية، سيصبح أكثر وضوحًا في سوريا بعد التغيّرات الاجتماعية وبروز الأحزاب الاشتراكية والقومية العربية أو السورية. هكذا تعرّضت برجوازية أهل المدن الحاكمة، لضغوط من البيئات المحدودة الدخل والبيئات الريفية التي وجد أبناؤها الذين أصابوا بعض التعليم، في الأحزاب الناشئة ضالتهم وأدواتهم، للصراع مع الطبقة السياسية الحاكمة واتهامها بالتنازل والرضوخ للاستعمار والتهاون في حقوق الطبقات الشعبية الصاعدة.

أما في مصر، فإنّ أعيان الريف والملاكين الكبار شهدوا أول أشكال الصراع مع الأحزاب ذات الطابع الديني أو القومي أو الاشتراكي، والواقع أنّ هذه الأحزاب، مثل الأخوان المسلمين أو حزب مصر الفتاة، كان أعضاؤها من الفئات التي أصابت طرفًا من التعليم والتي تمركزت نشاطاتها في المدن المصرية.

إن الصراع على الدولة الوطنية كان نتيجة لتغيّرات رئيسية كبرى يمكن أن نرصدها على النحو التالي:

- بروز فئات اجتماعية من الطبقات الوسطى والدنيا من أبناء المدن والأرياف، كانت تتطلّع إلى المشاركة بالسلطة وترى أنها في تناقض مع الطبقات الحاكمة إن كانت من برجوازيات المدن أو أعيان الأرياف.

- انحسار الموجة الليبرالية بسبب الأخطاء السياسية، وامتهان الدستور واستشراء الفساد. هذا الانحسار ترافق مع تراجع الأفكار الليبرالية في البلدان الأوروبية نفسها، لصالح الاتجاهات القومية والشعبوية والاشتراكية التي اجتذبت الفئات الوسطى وانتشرت في أوساط المتعلمين.

الصراع على الدولة الوطنية شهد خلال الستينات الانقلابات على القيادات الليبرالية لصالح الأحزاب القومية

- ظهور الأحزاب القومية والاشتراكية المتأثرة بالتيارات المماثلة في أوروبا، ابتداءً من الثلاثينات من القرن العشرين في مصر وبلاد المشرق العربي.

- بروز التيار الديني ممثلًا بالأخوان المسلمين الذي رأى بأنّ الإسلام قد استُبعد من الحكم والحياة العامة. والذي سرعان ما انتشرت فروعه خارج مصر.

- بروز دور المؤسسات العسكرية التي اجتذبت في صفوفها الحزبيين الذين بدأوا منذ الأربعينات التخطيط للاستيلاء على السلطة لصالح الأحزاب التي ينتمون إليها.

كل هذه العوامل اشتركت في تأجيج الصراع على الدولة الوطنية وحولها، فشهد خلال عقد الستينات الانقلابات على القيادات الليبرالية لصالح الأحزاب القومية التي توسّلت الجيش للوصول إلى السلطة.


لقراءة الجزء الأول: في تجربة الدولة العربية الحديثة (3/1)

لقراءة الجزء الثاني: في تجربة الدولة العربية الحديثة (3/2)

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن