وجهات نظر

هزيمة العدو في حرب "مراكمة الجثامين"

منذ أن اطلق فيلسوف الحرب والمفكّر الاستراتيجي الأشهر، كارل فون كلوزفيتس (1780 - 1831) تعريفه للحروب عمومًا بأنها "امتداد للسياسة بوسائل أخرى"، صارت العلاقة العضوية بين الكلمتين "الحرب" و"السياسة" حقيقة راسخة ليس فقط عند النخب السياسية والعسكرية، ولكن أيضًا عند قطاعات واسعة من جمهور الناس العاديين.

هزيمة العدو في حرب

إذن علاقة الحرب بالسياسة لم تعد تحتاج إلى شرح وكلام كثير أو قليل، سوى فقط ما يتعلق بمقدار الصواب والدهاء أو الحماقة والغباء اللاتي قد تنطوي عليه الأهداف السياسية لأية حرب، فدائمًا لا بدّ من وجود هدف سياسي قابل للتحقّق ويمكن رؤيته عندما تصمت المدافع ويهدأ غبار السلاح، ففي هذه اللحظة يتضح بجلاء مَن المنتصر ومَن المهزوم.

ما جرى في العام 1948 لا يمكن تكراره اليوم 

من منظور هذه الحقيقة البديهة في معنى الحرب، وإذا تأمّلنا قليلًا تلك المحرقة الرهيبة التي ينفّذها العدو الإسرائيلي حاليًا ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، فإننا نجد هذه الحرب الجنونية مربوطة بهدفين اثنين متكاملين ومعلنين من جانب حكومة العدو الأكثر عنصريةً وتطرّفًا وجنونًا في تاريخه. والهدفان هذان هما:

أولًا، إجبار أعداد هائلة من المواطنين الفلسطينيين على النزوح خارج قطاع غزة - إلى سيناء المصرية -، ومن ثمّ تنفيذ حلم إجرامي يداعب منذ سنين وعقود طويلة عقول القادة الصهاينة، هذا الهدف هو الخلاص من أكبر عدد ممكن من أصحاب الأرض الأصليين الباقين في وطنهم وتكرار نكبة العام 1948.

أما الهدف الثاني فهو اجتثاث منظمات المقاومة الفلسطينية بعدما تتحوّل أرض القطاع بالذات إلى أرض خراب فارغة من أهلها.

وكما ترى عزيزي القارئ، فإنّ الهدفين كليهما يحلّق بعيدًا في الوهم ويلامس حدود الجنون، فالتهجير القسري لجحافل المواطنين العرب الفلسطينيين الذي وضعه المُخطط الصهيوني كهدف أول لمحرقة غزة الحالية، هذا المُخطط يغيب عن عقله المصاب بهوس وحشي، حقيقة تبدو ناصعة كالشمس في كبد النهار وهي أنّ ما جرى في العام 1948 لا يمكن تكراره اليوم بعد مرور ثلاثة أرباع القرن، ليس فقط لأنّ العالم تغيّر تغييرًا جذريًا، على الأقل لجهة أنّ القيم والمبادئ الإنسانية الرفيعة صارت الآن أكثر رسوخًا ونصاعةً مما كانت قبل منتصف القرن الماضي، ولكن الأهم أنّ وعي الشعب الفلسطيني تطور تطورًا مذهلًا وأصبح شديد الإدراك والإيمان بكينونته الوطنية وهويته القومية، ودفع للحفاظ عليهما أثمانًا باهظة ومخضبة بشلال دماء لم ينقطع على مدى سنين وعقود طوال.

فضلًا عن ذلك كلّه، فإنّ مصر التي يُراد منها أن تفتح حدودها أمام جحافل المقتلَعين عنوة من أراضيهم، تقف حاليًا، شعبًا ودولةً، صفًا واحدًا متلاحمًا وصلبًا ضد خطة العدو.

لا بدّ من إبادة تامة للشعب حتى يتحقق هدف إبادة مقاومته

يبقى الهدف الثاني والأخير لحرب الإبادة التي أطلقها العدو، مستعينًا بأحدث ما تنتجه المصانع الأمريكية من آلات القتل، ضد أهلنا العُزّل في غزة، أي اجتثاث منظمات المقاومة من بدن المجتمع الوطني الفلسطيني، هذا الهدف لا يقلّ خبلًا وخرافيةً عن هدف التهجير، فالمقاومة ابنٌ أنجبه شعب فلسطين من رحم نكبته ومأساته، ومن ثمّ فإنّ هذه المنظّمات جزء عضوي من النسيج الشعبي، فلا بدّ من إبادة تامة وكاملة للشعب حتى يتحقق هدف إبادة مقاومته، وهو أمر يسكن في قلب الخرافة شخصيًا.

الخلاصة.. أنّ تلك الحرب التي يشنّها العدو الآن على ما تبقى من أرض وشعب فلسطين، وتتنافس فيها آيات الوحشية مع مظاهر الجنون، لن تحقّق أيّ هدف سياسي وأيّ انتصار من أيّ نوع، الّلهم إلا مراكمة الجثث وجثامين الشهداء، لكن متى كان عدد الجثث دليلًا على النصر؟.. بالعكس ربما كان الخراب الزائد والانفجار المروع في أعداد الشهداء، دليلًا أكيدًا على الهزيمة النكراء.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن