لا يهمّنا هنا الخوض في القراءات اللصيقة بهذه التطورات التي من المؤكد أنها مفتوحة على عدة سيناريوهات، وبالنتيجة مفتوحة على عدة قراءات، بقدر ما يهمّنا التعامل معها باعتبار الحدث نموذجًا تطبيقيًا لما أشرنا إليه في المقالتين السالفتين، حيث تطرّقنا حينها إلى مجموعة من المهام، أحصينا منها في المقال الأول ثلاثة منها على الأقل: ممارسة النقد الذاتي؛ الانخراط في مشاريع قومية مؤسساتية تروم تجديد الفكرة القومية؛ ومنافسة المنصات البحثية والإعلامية التي تعج بها الساحة.
أما المقال الثاني، فقد كان مخصّصًا للتوقف عند بعض التفاصيل المرتبطة بالمهام سالفة الذكر، وجاءت كالتالي: التسريع من وتيرة المراجعات النظرية؛ الانفتاح على قضايا العصر وأغلبها كان خارج دائرة التفكير في عقود ماضية؛ مأسسة المشاريع القومية، على الأقل في شقها البحثي لأنه لا مشروع إصلاحيًا دون عدة نظرية تسطّر معالمها على أرض الواقع.
نزعم أنّ تعامل العقل القومي العربي المعاصر مع أحداث "طوفان الأقصى" يُعتبر تمرينًا تطبيقيًا من أجل قياس تفعيل المهام النظرية أعلاه، أو على الأقل تقييم قدرة تفعيل تلك المهام مقارنة مع ما نعاين من تفاعلات صادرة عن عدة مرجعيات، بمقتضى طبيعة التطورات التي تتميّز بتفاعل جميع المرجعيات، بصرف النظر عن تباين واختلاف هذه التفاعلات.
نموذج مركّب من التحوّلات الاستراتيجية ينبغي أن يأخذها أهل الفكر القومي بعين الاعتبار
تهمّنا هنا مهام ممارسة النقد الذاتي، ولنا أن نطرح أسئلة حول دور مثل هذه الأحداث في خدمة الفكرة القومية، شرط أن يكون أهل هذه الفكرة في السياق الراهن قد قاموا بمراجعات، سواء صدرت في الساحة أو بقيت حبيسة بعض اللقاءات والندوات، ولكن الشاهد هنا أنه لا يمكن التفاعل مع هذه التطورات من الأفق النظري القومي نفسه الذي كان واكبَ حروب 67 و73، لأنه جرت عدة تطورات استراتيجية بين الأمس واليوم.
من بين هذه التطورات صعود أسهم الظاهرة الإسلامية الحركية، في العمل السياسي والعمل القتالي، بصرف النظر عن تراجع أسهم الأولى خلال العقد الأخير منذ منعطف 2013، لكن في الشق القتالي، نعاين حضورًا جليًا داخل وخارج المنطقة، بل إنّ أحداث الساحة في فلسطين هذه الأيام ذات صلة بأداء إحدى التنظيمات المحسوبة على هذه المرجعية.
ليس هذا وحسب، لا يمكن صرف النظر عن دور قوى إقليمية في أداء هذه المرجعية، سياسيًا وقتاليًا، بمعنى أنّ الأمر تجاوز مقام التنظير لدى رموز وأتباع المرجعية، ووصل إلى ممارسات ميدانية إقليمية.
هذا نموذج مركّب من التحوّلات الاستراتيجية التي تمرّ منها المنطقة، والتي ينبغي أن يأخذها أهل الفكر القومي بعين الاعتبار في معرض تمرير خطاب نظري جديد يتماشى مع هذه التطورات المفصلية، خاصة أنها تصب بشكل أو بآخر في خدمة الفكرة القومية، وإن كانت المرجعية الدينية سالفة الذكر تصرّ على تقزيم هذه الفكرة - بل إنّ نسبة منها تكاد تشطين الهمّ القومي - من خلال ترويج فكرة "الأمّة" التي تتجاوز فكرة "الدولة الوطنية".
نقول هذا بصرف النظر عن دفاع نسبة من أهل تلك "المرجعية الإسلامية" عن حلم ما يُصطلح عليه "دولة الخلافة" أو "الخلافة على منهاج النبوة"، لأن هذا الخطاب السائد إجمالًا عند مجموعة من المشاريع الإسلامية الحركية، محدود الأفق الميداني، كما أكدت ذلك مجموعة من التجارب، وليست آخرها تجربة "الدولة الإسلامية في العراق والشام".
من باب الإنصاف وإحقاق بعض الحقوق المسكوت عنها أو اللامفكّر فيها، من التفاعلات النظرية التي تحسبُ لأهل الفكر القومي في حقبة ما بعد المراجعات، ويمكن التأريخ لهذه الحقبة ابتداءً من تبعات حرب الخليج الثانية المؤخرة في صيف 2000، وفي سياق التصدي لهذه الأفكار المعادية لمصالح الدولة الوطنية الحديثة في المنطقة العربية ومعها مصالح المشترك القومي العربي، أي أفكار "الدولة الإسلامية" و"دولة الخلافة"، كانت الأقلام القومية أو ذات الهمّ القومي في مقدمة الأسماء البحثية التي اشتغلت على نقد ونقض تلك الأفكار، وتكفي هنا الإحالة على أعمال الثنائي عبد الإله بلقزيز وسعيد بنسعيد العلوي، ضمن أسماء أخرى.
أحداث "طوفان الأقصى" محطة مفصلية تمرّ منها المنطقة
وقد أشرنا في مقالة سابقة إلى دلالة غياب أعمال عبد الله العروي في المنصات البحثية والإعلامية التابعة لمشاريع "أسلمة المعرفة"، من باب التنبيه إلى أحد معالم الحصار الذي يتعرّض له الرجل من قبل أقلام "الدولة الإسلامية"، والأمر نفسه ينطبق على الحصار الذي يطال الثنائي بلقزيز وبنسعيد العلوي، لاعتبارات عدة، منها الاعتبار أعلاه الذي عنوانه جرأة نقد خطاب تلك المشاريع.
أحداث "طوفان الأقصى" محطة مفصلية تمرّ منها المنطقة، أياً كانت تبعاتها على الساحة، لكن المفاجآت اللصيقة بها لا تهم وقائع الميادين وأداء أنظمة وصنّاع قرار لدى قوى إقليمية ودولية، وإنما تهمّ الشقّ النظري أيضًا، وهذه جزئية دقيقة من المفترض أن تكون حاضرة في الجهاز المفاهيمي لأهل النظر القومي، محليًا وإقليميًا.
(خاص "عروبة 22")