هي "معركة الرواية"، كما يحلو للصحافيين الفلسطينيين تسميتها... قمع واضطهاد وعنف متواصل بهدف تغييب الرواية الحقيقية، وتشويهها، ومنع فضح جرائم الاحتلال واستبداده بالشعب الفلسطيني الأعزل.
أما الأمثلة، فهي أكثر من أنّ تعد وتحصى. إنتهاكات بالجملة ترصد يوميًا بحق الصحافيين، ربما كان أشدها إيلامًا وإجرامًا، إغتيال الصحافية في قناة الجزيرة، شيرين ابو عاقلة، برصاصة في الرأس، أثناء تغطيتها إقتحام مخيم جنين، العام الماضي، لتجسّد باستشهادها أسطع مثال على وحشية آلة القتل الإسرائيلية التي لا تتوانى عن تنفيذ "إعدامات ميدانية" بحق الصحافيين والمدنيين على مرأى من العالم وعدسات الكاميرات.
خط الدفاع الأول
"أن تعيش في فلسطين المحتلة ليس بالأمر السهل، فكيف إذا كنت صحافيًا!"، هكذا تستهلّ الصحافية الفلسطينية ومسؤولة العلاقات العامة في وكالة التعاون الياباني "جايكا" ريم فايز زكي أبو لبن، حديثها لـ"عروبة 22"، فهي لا تعرف من أين تبدأ في الحديث عن إنتهاكات جنود الاحتلال، وتقول: "الواقع صعب جداً، ومختلف عما يعيشه الصحافي في الدول التي تخلو من المحتل. نحن فعليًا نقف كصحافيات وصحافيين في خط الدفاع الأول في مواجهة مع المحتل. يتمّ ضربنا وإهانتنا وإعاقة عملنا، أثناء تغطيتنا الحدث، خصوصًا على خطوط التماس".
ومثل أبو لبن، كثيرون في فلسطين يعانون ظروفًا مشابهة، لكنهم يصرّون على مواصلة عملهم، "فلطالما حاول المحتل كمّ أفواهنا وأقلامنا، بتهديداته وممارساته، لكننا مستمرون في مهنتنا لإيصال الصوت الفلسطيني إلى العالم" تؤكد أبو لبن.
يريدون "رواية الجلاد"
من جهته، يقول المراسل الصحافي في قناة "رؤيا" الأردنية حافظ أبو صبرا، لـ"عروبة 22": "يستهدفوننا لأننا نغطي رواية الضحية، مشكلتهم أنهم يريدون أن تكون الصورة المنقولة إلى العالم باتجاه واحد وبرواية واحدة هي رواية الجلاد". ويعدّد أساليب الاحتلال المختلفة في الإستهداف المباشر للصحافيين، سواءً "بالرصاص أو بالقنابل الصوتية أو الإعتداء بالضرب وتكسير المعدّات، وغيرها الكثير من الممارسات القمعية والترهيبية، وصولًا إلى اعتقال الصحافيين والصحافيات لفترات تمتد لساعات وأحياناً لأيام وأشهر، بحجة أن أيّ منطقة ينفذ فيها الاحتلال عملياته تكون منطقة عسكرية مغلقة، وهذا هو "الغطاء القانوني المنحاز الّذي يستندون إليه" في تبرير الاعتقال، حسبما يوضح أبو صبرا.
وأكثر من ذلك، يتعاطى الاحتلال مع الصحافي باعتباره جزءًا من المتظاهرين ضده من دون احترام نصّ القانون الدولي الإنساني الّذي يفرض حماية الصحافيين أثناء تأديتهم واجبهم في الميدان، "فمن يحمل الميكروفون والكاميرا، في نظر الجندي الإسرائيلي، كمن يحمل الحجر والسلاح في مقاومة الإحتلال" على حد تعبير أبو صبرا.
"قنص"... واعتقالات
خلال السنوات الثلاث الأخيرة، أصيب أبو صبرا خلال تغطياته للأحداث، عدة مرات. ويسرد مثلًا كيف أصيب في كتفه الأيسر، أثناء احتمائه خلف حائط من رصاص الإحتلال عند مدخل مخيم جنين في 28 كانون الثاني/يناير 2023، بينما كان يغطي عملية العدوان الإسرائيلي آنذاك على المخيّم.
لم ينتبه أبو صبرا يومها، إلى انتشار القنّاصة الإسرائيليين على أسطح المنازل عند مدخل جنين، إلّا حين تم استهدافه مع زملائه الصحافيين بالرصاص الحي بشكل مباشر، رغم أنّ كلمة "PRESS" كانت تظهر على ملابسه بشكل واضح.
قبلها كان قد أصيب أبو صبرا، برصاص مطاطي مباشر، أطلق عليه في قرية بُرقة (شمال غرب نابلس)، أثناء تصدي فلسطينيين بالحجارة لاقتحام قوات الاحتلال حين كانت تحمي المستوطنين الذين يحاولون العودة إلى بؤرة حومش الإستيطانية المقامة على أراضي القرية.
"يومها أصابتني رصاصة معدنية مغلّفة بمطاط، أسفل الظهر، أطلقت عليّ من مسافة 100 متر تقريبًا، كانت موجهة مباشرة نحوي. علمًا أنني كنت الشخص الوحيد في الشارع وأرتدي لباسًا صحافيًا" يقول أبو صبرا، ويضيف: "قبلها بأسبوع تقريبًا، تمّ احتجازنا، كصحافيين، لأكثر من ساعتين عند مدخل قرية الحارس، فجر يوم العملية العسكرية التي شُنت لهدم منزل الشهيد محمد سيف... والأسوأ أنهم إستخدمونا كدروع بشرية في التصدي لحجارة الشبان الفلسطينيين، ومنعونا حتى من تصوير الحدث ورفضوا الإفراج عنّا حتى الإنتهاء من العملية العسكرية ومغادرة جنودهم الموقع المحاصر".
وكذلك، يروي أبو صبرا، كيف أصيب بشظايا قنابل صوتية أطلقت تحت أقدامه، في أيلول/سبتمبر الماضي، في قرية كفر حارس، أثناء تغطيته مسيرة مناوئة لمصادرة جزء كبير من أراضي القرية على الهواء مباشرةً، بعد أن أغلق الإحتلال البوابة العسكرية الموضوعة عند مدخل القرية ومنع السكان من الخروج منها وحاصر الصحافيين لمنعهم من تغطية إعتداءات الجنود الإسرائيليين على الأهالي المشاركين في التظاهرة.
معاناة من نوع آخر
إلى المخاطر الأمنية، يتعرّض الصحافيون عمومًا لضغوطات نفسية أثناء عملهم في الميدان، إذ تقول أبو لبن: "يصعب وصف الضغط النفسي الّذي نعيشه أثناء تشييع جثمان الشهداء مثلاً، لنقل معاناة العائلة"، عدا عن تعرّض الصحافيين أيضاً لضغوطات إقتصادية وخطر فقدان عملهم بسبب تطرقهم إلى مواضيع سياسية حساسة هي بمثابة تعبير عن الرأي.
وإذ تعتبر أنّ معاناة الصحافيات في فلسطين مضاعفة عن زملائهنّ الشباب، تؤكد أبو لبن أنّ الصحافيين في فلسطين، يواجهون بشكل عام قيودًا متنوّعة، كون سقف الحريات محدودًا "فتتمّ محاسبتنا أمنيًا في حال تخطينا الحدود المرسومة لنا، وقد حوسب العديد من الصحافيين والصحافيات جراء التعبير عن أنفسهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي تجاه قضية رأي عام معيّنة".
المواجهة مستمرة
في المحصّلة، يبقى الأهم، بحسب أبو صبرا، أن يحافظ الصحافي الفلسطيني خلال عمله على استمرار تغطيته جرائم الاحتلال التي تمارس بحق المواطنين ومنازلهم وممتلكاتهم وأراضيهم، مع محاولة تجنّب التعرض للأذى والإعتقال والالتزام التام بارتداء لباس السلامة المهنية وأدوات الحماية والشعارات المتعارف عليها دوليًا، فيما تشدد أبو لبن على أنّ قتل أبو عاقلة، بهذه الطريقة الوحشية، زادهم إصرارًا على الاستمرار وإكمال المسيرة في فضح الاحتلال وتوثيق جرائمه.