الأداء السياسي للنظام العربي الرسمي لا يبدو أنه فهم ما حدث من انقلاب موازين القوى كما فهمه الأمريكيون والإسرائيليون وحتى خصومهم مثل إيران والصين وروسيا.
كتب أحد المحللين بعد هجوم ونصر "طوفان الأقصى" العظيم يقول إنّ الهزيمة الاستراتيجية وتدمير الهيبة الإسرائيلية والأمريكية والتي تتساوى مع ما فعلته الجيوش العربية في حرب أكتوبر/تشرين أول لن تجد سادات فلسطيني ولا ثغرة "دفرسوار" أخرى تستخدمه في حرمان العرب من جني مكاسب سياسية تتساوي مع حجم النصر العسكري الذي حققته المقاومة.
في الاستراتيجية، فإنّ قتل المدنيين دون تحقيق هدف سياسي هو دليل عجز لغضب أعمى. دليل يرسّخ الهزيمة ولا يمحوها.
أداء النظام العربي الرسمي عاجز عن فهم الرصيد الهائل الذي وضعته عملية "طوفان الأقصى" في بنك أوراق الضغط العربية
الحقيقة؛ وللحسرة الشديدة فإنّ الأداء السياسي للنظام العربي الرسمي منذ زلزال ٧ أكتوبر يوحي بأنّ هذا النظام التابع بنيويًا للولايات المتحدة لم يسعَ لتقليص تبعيته لواشنطن وما زال يراهن على أنّ تحقيق مصالح كل دولة على حدة هو في الاستمرار في معادلة التبعية والخضوع وخطب ود العدو بتطبيع شائن، ويوحي بالتالي بأنّ تكرار سيناريو (الدفرسوار – كيسنجر) من تحويل نصر أكتوبر/تشرين أول العسكري الشامل إلى هزيمة سياسية شاملة للأمّة ليس مستبعدًا تمامًا!!. فهذا الأداء جاء منخفض الجرأة، منخفض الخيال السياسي، عاجزًا عن فهم الرصيد الهائل الذي وضعته عملية "طوفان الأقصى" في بنك أوراق الضغط والفعل العربية.
السطور القادمة هي محاولة لتحديد جوانب الإخفاق في رد الفعل العربي الرسمي يخشى معه من أن يكرّر حالة الفشل التاريخي في تحويل انتصارات مقاتليه وشهدائه إلى انتصارات سياسية:
الخطأ الاستراتيجي الأول:
المقاومة نقلت العرب لأول مرّة منذ أوسلو المشؤومة من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم، لكن أداء النظام الرسمي ما زال متخندقًا في موقع الدفاع، وبينما تعطيه هجمة ٧ أكتوبر/تشرين أول فرصة تاريخية للتحرّر في هذه المرحلة من معادلة الخضوع لمعادلة "السلام مقابل السلام" التي فرضتها إسرائيل فيعود مرحليًا إلى معادلة الحد الأدنى وهي "الأرض مقابل السلام"، فإنّ النظام العربي يأبى أن يستفيد من الفرصة التاريخية السانحة.
هيمنة شخصية التابع على علم النفس السياسي للحكومات العربية حرمت السياسة من الاستفادة من مأزق إسرائيل وأمريكا
موقف الدفاع الصارم عن سيادة مصر والأردن من مخططات تهجير الفلسطينيين التي تعمل واشنطن وتل أبيب من خلالها على تصفية القضية الفلسطينية هو موقف صحيح مائة بالمائة ولكنه موقف دفاعي لا يعكس التغيّر في موازين القوى بعد "طوفان الاقصى"، إذ لا بد أن يستكمل بهجوم مواقف سياسية جريئة، جرأة الأداء العسكري للمقاومة، أي يترجم هذا الأداء إلى مكسب سياسي، وفي هذا المجال لم ينتبه أحد إلى سقف للمكسب يترجم النصر حدّده إسماعيل هنية القائد السياسي لـ"حماس" مؤخرًا، قال فيه إنهم "يقبلون بدولة فلسطينية مترابطة وذات سيادة على أراضي ٦٧".
الخطأ الاستراتيجي الثاني:
تعاملت النظم العربية كافة مع نصر "طوفان الأقصى" باعتباره أزمة وليست فرصة، ومحنة وليست منحة، وصار الهدف الأساسي لها هو وقف التصعيد. تخشى حكومات عربية عدة من أن يتحوّل "طوفان الأقصى" إلى عنصر عدم استقرار داخلي بينها وبين شعوبها التي غادرت صمتًا ران عليها سنوات وعادت فلسطينيًا وغزاويًا للشارع بحيوية بديعة، وبدلًا من أن تعتبرها فرصة لسد فجوة الشرعية السياسية ونيل رضا شعوبها بمواقف تقترب من مواقف الجماهير فهمت الوضع الجديد المؤاتي على أنه مأزق لها!، وليس مأزقًا وجوديًا لم تعرفه إسرائيل منذ ١٩٤٨ ولم تعرفه أمريكا منذ الحرب العالمية الثانية.
الغريب أنّ فقدان الخيال السياسي وهيمنة شخصية التابع على علم النفس السياسي للحكومات العربية حرمت السياسة من الاستفادة القصوى من عناصر المأزق الذي توجد فيه إسرائيل وأمريكا والذي يمكن تلخيصه في مغزى واحد هو؛ أنه للمرة الأولى ومنذ انتقال المنطقة للهيمنة الأمريكية التامة بعد ١٩٧٧ فإنّ قدرة كليهما، كل على حدة أو مجتمعين، هي قدرة محدودة وليست مطلقة، وإن كل الخيارات المطروحة على طاولة الجنرالات وغرفة عملية الحرب المشتركة الإسرائيلية - الأمريكية والساعية لمحو العار والإهانة وفقدان الهيبة وانهيار الثقة بالقيادة السياسية والعسكرية لكليهما، هي خيارات مكلفة للغاية وقد تتحوّل إلى هزائم أخرى تنهي المستقبل السياسي لقائديهما الحاليين نتنياهو وبايدن.
الخطأ الاستراتيجي الثالث:
استمرار العرب في التعامل مع الموقف الجديد بالآليات الثنائية القديمة نفسها لـ"كامب ديفيد وأوسلو"، وهي آليات "أنا ومن بعدي الطوفان من أشقائي العرب"، آليات الاستمرار في أوهام أنّ بمقدور كل دولة عربية تحقيق مصلحتها من خلال التعامل فرادى مع أمريكا وإسرائيل.
ما يهمّ أمريكا فقط هو ضمان أمن إسرائيل وضمان مصالحها في الممرّات التي يشرف عليها العرب
فأول وَهْم كان يجب أن يسقطه العقل العربي الرسمي بـ"طوفان الأقصى" هو العودة لمفهوم الحد الأدنى من ترابط الأمن القومي العربي، وأنه ليس بوسع كل دولة من جوار فلسطين مثلًا تحقيق مصلحتها بعقد اتفاق سلام منفرد مع إسرائيل يضمن حدودها ويجعلها تتفرّغ للتنمية والازدهار، فقد ثبت أنّ معاهدات السلام بالنسبة لواشنطن وتل أبيب لم تكن سوى مرحلة مؤقتة تقوم بعدها إسرائيل بحمل المشكلة الفلسطينية من على كاهلها وإلقائها كرة مشتعلة في حجر المصريين والأردنيين بتهجير الفلسطينيين إلى سيناء والضفة الغربية، وقد سقط من قبله بوقت طويل وَهْم آخر؛ وهو أنّ السلام مع إسرائيل سيجلب الرخاء، فحقيقة الأمر أنه لم يجلب لمصر والأردن سوى جبال من الديون والتدهور الاقتصادي.
أما الدول العربية التي لم تكن جزءًا من دول الطوق وطبّعت "إبراهيمًا" مع إسرائيل على أمل أن يعني ذلك التزامًا أمريكيًا بأمنها يماثل التزامها بأمن اسرائيل، فقد أثبتت الحرب في اليمن والقذائف التي طالت السعودية والإمارات دون حراك من الأمريكيين وقيادتهم المركزية وقواعدهم المنتشرة انتشار الفطر أنّ ما يهمّ أمريكا فقط هو ضمان أمن إسرائيل وضمان مصالحها في تدفّق النفط وحرية المرور في الممرّات الحاكمة التي يشرف عليها العرب.
صبّ النصر أوتوماتيكيًا في صالح مزيد من تصميم الصين وروسيا على التواجد في الشرق الأوسط
وحتى آليات أن تعمل إسرائيل كوكيل عن الأميركيين في حماية نظم عربية أسقطتها عملية "طوفان الأقصى" إلى الحضيض بعد أن أثبتت أنه جيشها هش لا يستطيع حماية شعبه وأن تكنولوجيا السلاح الإسرائيلي التي تم تضخيمها ثبت أنها معيبة فعجزت عن التنبؤ أو وقف هجوم بأسلحة بدائية.
الخطأ الاستراتيجي الرابع:
عدم قراءة قيمة نصر المقاومة في إطار لعبة الأمم الكبرى الجارية التي تسيطر عليها حالة الحرب الباردة الجديدة، إذ صبّ النصر أوتوماتيكيًا في صالح مزيد من تصميم الصين وروسيا على التواجد في الشرق الأوسط، والرغبة في كسب العرب بتسجيل تعاطف صريح في الأزمة مع الفلسطينيين.
فإذا كانت صورة الحرب عالميًا تبدو من جهة كجبهة (أطلسية – إسرائيلية) تشنّ الحرب على العرب، فإنها تبدو دون تعمّد من أحد من الجهة الأخرى كجبهة - ولو مؤقتة – (صينية- روسية – عربية) كما كان الحال في الخمسينات والستينات وامتد حتى حرب ٧٣.
(خاص "عروبة 22")