وجهات نظر

بيان ضد "الشعبوية" المتصاعدة في حرب غزّة

لقد كانت ولا زالت الحرب الحالية في غزة فرصة لبعض المثقّفين العرب الذين وجدوا في هذه المأساة التي تحلّ بالشعب الفلسطيني فرصة لكتابة مقالات ومنشورات تشكّك في مكتسبات الحداثة الإنسانية من حقوق إنسان وديمقراطية وفكر ليبرالي حديث بحجة انتهاك إسرائيل لحقوق الشعب الفلسطيني، وكأنّ العرب لم يشاركوا في إنتاج هذه الحداثة ولم يستفيدوا منها، وكأنّ الإنسان العربي اليوم لم يعد يتطلّع إلى الحداثة، وهذا ما نبّهنا إليه زميلنا منتصر حمادة في مقاله الأخير في "عروبة 22".

بيان ضد

هذا التوجّه الجديد لدى نسبة معيّنة من المثقّفين العرب يمكن وصفه "الشعبوية الجديدة"، إنّهم يريدون العودة بنا إلى عصر الحكّام العثمانيين الذي هو عصر ما قبل الحداثة العربية. لقد قام كل روّاد النهضة العربية الحديثة، الذين تمّ عرض أفكارهم في سلسلة مقالات نُشرت في منصة "عروبة 22"، على نقد السياسات العثمانية ودعوا إلى الإصلاح الشامل للأوضاع العربية وكلّهم كانوا يدافعون عن كرامة الإنسان وعن الحرية الفكرية والسياسية والاقتصادية ضد التعسّف العثماني، أما النزعة الليبرالية، فقد كانت الكلمة الأكثر بريقًا وإشعاعًا في ذلك العصر الذهبي للعروبة.

الحروب والنزاعات المسلّحة والفوضى السياسية كانت دومًا فرصة لظهور الشعوبيين وتراجع نفوذ الليبراليين

كان المثقّفون العرب أمثال رفاعة الطهطاوي (1896) وبطرس البستاني (1864) وخير الدين التونسي (1881) ولطفي السيد (1908) في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين من أبرز المفكّرين الليبراليين في تلك الفترة، كما تمّ إنشاء الجامعة الأمريكية وجامعة القديس يوسف في بيروت من أجل تعليم النخب العربية الجديدة الحديثة، حتى إنّ الكاتب خالد زيادة اعتبر في سلسة مقالاته في هذه المنصّة حول تجربة الدولة العربية الحديثة، أنّ العقدين الأوّلين من القرن العشرين كانت سنوات الليبرالية الظافرة في مصر التي استطاع رجالها أن يقيّدوا حركة الأزهر بالقوانين وأن يجدوا منافسًا حديثًا له تَمَثّل في جامعة القاهرة.

تراجعت الموجة الليبرالية العربية كما هو معلوم، بسبب الأخطاء السياسية وامتهان الدستور واستشراء الفساد، ولكن هذا الانحسار ترافق مع تراجع الأفكار الليبرالية في البلدان الأوروبية نفسها لصالح تنامي الموجات القومية والشعوبية والاشتراكية وذلك بدايةً من الثلاثينيات من القرن العشرين كما كتب خالد زيادة في مقالاته. وواضح أنه من بين أسباب تأسيس تيار "الإخوان المسلمين" في مصر، نجد على الخصوص انحسار التيارات الليبرالية وصعود المد الفاشي في البلدان الأوروبية حيث كان حسن البنا معجبًا بشخصية موسوليني الفاشستي الإيطالي.

لقد كانت الحروب والنزاعات المسلّحة والفوضى السياسية دومًا فرصة لظهور الشعوبيين وتراجع نفوذ الليبراليين. وكنّا قد أشرنا في مقال سابق هنا، كان مخصّصًا للحقبة الناصرية كيف أنّ الضباط الأحرار في بداية الثورة كانوا يحتفظون بأفكار ليبرالية بدليل أنهم وجّهوا دعوة لأكبر مفكّر واقتصادي ليبرالي في تلك الفترة، والإحالة على النمساوي فردريك فون هايك، إلا أنّ العدوان الثلاثي سيّء الذكر على مصر، جعل الضباط الأحرار يُغيّرون الوجهة من الانفتاح على الغرب إلى تبنّي سياسات الاتحاد السوفيتي حينها.

المطلوب ألاّ نستغل مأساة الضحايا في غزّة من أجل إحياء اتجاهات فكرية شعبوية انتكاسية

أظهرت الأحداث الأخيرة في غزّة أنّها كانت "فرصة لرفع أصوات المتطرّفين من كل الجهات الذين يدعون إلى الإقصاء والعنف وعدم الحوار ويثيرون مشاعر شعوب المنطقة ويتّهمون النخب الحاكمة والاقتصادية والفكرية بالتخلي عن الشعب الفلسطيني" بتعبير فؤاد السنيورة على هذه المنصة. إنّ الشعبوية في جميع بلدان العالم تقوم على اتهام النخب المحلية بالتواطؤ مع النخب العالمية من أجل خدمة مصالحها ضد مصالح الشعوب، وقد يكون دونالد ترامب، أحد أهم الأمثلة في هذا السياق.

هذا الزمن العربي الحالي هو زمن مأساوي وصعب، والمطلوب ألاّ نستغل مأساة الضحايا في غزّة من أجل إحياء اتجاهات فكرية شعبوية انتكاسية تضرّ بمصالح شعوبنا العربية التي تعاني أساسًا من ويلات الحروب والأزمات والفقر والبطالة والتضخّم والتطرّف والإرهاب. ولدينا كمثقّفين عرب مسؤولية تجاه شعوبنا وأوطاننا هي أنّ نكون صوت الحقيقة والعدالة والسلام دون غلواء من الشعبوية أو استعلاء من النخبوية الاتجاه الفكري المعاكس للشعبوية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن