يمكن أن نتوقف أمام عدد من القضايا المركزية في هذا الصراع، أهمّها أربعة:
أولًا: هناك فرق بين الاستعمار والاستيطان، الأول مؤقت مهما طال، كما حدث للبريطانيين في اليمن أو في الهند، أو كما حدث للفرنسيين في الجزائر أو المغرب أو تونس، تلك أمثلة من بين أمثلة أخرى، ولكن مهما طال الاستعمار ينتهي في مكان ما وتحت طروف ما، أما الاستيطان فهو كما حدث للعنصر الأبيض في أمريكا أو في أستراليا أو نيوزلندا، هو (إحلال بشر مكان بشر آخرين) تحت ذريعة أنّ تلك الأرض لا يوجد بشر فيها، وهذا هو الشعار الذي بنى عليه المستوطنون الإسرائيليون فكرتهم (أرض بلا شعب وشعب بلا أرض)!.
إسرائيل شجّعت الانقسام الفلسطيني.. والفرقة كانت ولا تزال أحد أسباب استمرار عذاب الفلسطينيين
من هنا فإنّ كل الاقترابات التي تمّت تحت مسمّيات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيل وصلت إلى طريق مسدود، ولم تعترف دولة إسرائيل بوجود (دولة لفلسطين) وقد برّروا ذلك بمبررات كثيرة، منها أنّ الفلسطينيين عرب ويلاد العرب كبيرة وواسعة، فليذهبوا هناك! أو لا يوجد (مفاوض فلسطيني)!
ثانيًا: من أجل حرمان الفلسطينيين من دولة، كانت استراتيجية الدولة الإسرائيلية على مراحل عدّة هي (تقسيم الفلسطينيين) وقد شهد التاريخ تكرار ذلك الانقسام منذ الحسيني/النشاشيبي إلى فتح/حماس، أشكال من الفرقة والنتيجة واحدة. وفي العقود الأخيرة، على الرغم من الدعوة الصادقة لكل من يرى الظلم الذي يقع على الفلسطينيين أن يتّحدوا أمام العدو، إلا أنّ تلك الدعوات تبخّرت في الفضاء، وظلّ الصراع قائمًا، بل هناك من يقول، وتؤكده الشواهد، إنّ إسرائيل شجّعت ذلك الانقسام، فهو بالنسبة إليها (أخبار طيّبة) وحتى ربما كان هناك دعم خفي لـ"حماس" في بداية ظهورها من إسرائيل، على أساس أنّ "حماس" في غزّة يمكن أن (تُحتوى) فالغاز والماء وكل سبل الحياة من إسرائيل، وأيضًا المال الذي يأتي إلى "حماس" يمرّ بتل أبيب!
لذلك فإنّ تلك الفرقة كانت ولا تزال هي أحد أسباب استمرار عذاب الفلسطينيين، بجانبها التدخّل (المصلحي) للقوى الأخرى التي تدّعي مناصرة فلسطين ويتبيّن لأي عاقل أنها تريد تحقيق أجندتها لا أكثر، والمثال أمامنا واضح، فمحور المقاومة قال لمن يربد أن يسمع أنّ هناك (وحدة الجبهات) ولمّا وقعت الواقعة لم يرَ أحد أيّ وحدة لتلك الجبهات!
إسرائيل اعتمدت على الإرهاب المادي والمعنوي والنفسي، لأنه الطريق الأسرع لتفريغ فلسطين من سكانها العرب
ثالثًا: قامت إسرائيل واستمرّت على (الإرهاب) وهذا ليس قولًا عاطفيًا ودعائيًا، فهناك من الشواهد التاريخية ما يُثبت دون أيّ شك ذلك التوجّه، ولدينا على الأقل شاهدان، الأوّل هو كتاب (دولة الإرهاب)، وهو كتاب من تأليف توماس سواريز وهو مؤرخ بريطاني، قام كاتب هذه السطور بجهد لأخذ حقوق نشره بالعربية، وبالتالي تمّ نشره بالعربية في سلسلة عالم المعرفة الكويتية بترجمة الأستاذ محمد عصفور، وهذا الكتاب (نُشر عام 2018 ومتاح على موقع المجلس الوطني للثقافة في الكويت فقط بدولار واحد لمن يرغب). يتابع الكتاب بدقة وبالوثائق قيام إسرائيل على الإرهاب من خلال عصابات إرهابية تغذيها الحركة الصهيونية في سبيل طرد المواطنين الفلسطينيين من قراهم ومدنهم ومنازلهم، كونهم شعبًا يعمل بالزراعة ومعظمهم أعزل.
أما الشاهد الثاني فهو متاح في طبعات الموسوعة البريطانيةEncyclopedia Britannica خاصة في طبعتها الأولى حتى سبعينات القرن الماضي، فتحت عنوان (الإرهاب في الشرق الأوسط)، لا يجد الباحث إلا حديثًا مسهبًا عن (العصابات الصهيونية) وذلك شاهد آخر. ذكرتُ شاهدين من جملة شواهد على اعتماد إسرائيل على أشكال من (الإرهاب) المادي والمعنوي والنفسي، لأنه الطريق الأسرع لتفريغ فلسطين من سكانها العرب.
تكوّنت فكرة المسألة اليهودية في الغرب، وكان الحل إما "المحرقة" أو تصدير المشكلة إلى مكان آخر هو فلسطين
رابعًا: الاضطهاد التاريخي الذي واجهه اليهود في أوروبا على امتداد قرون طويلة، ترك إرثا ثقافيًا في الغرب المسيحي مضاد لليهود لأسباب دينية/اقتصادية، لذلك تكوّنت فكرة (المسألة اليهودية) في الغرب، وكان الحل إما (المحرقة) التي قام بها النظام النازي في ألمانيا تحت مسمى (الحل النهائي)، أو تصدير المشكلة إلى مكان آخر هو (فلسطين)، وقد استطاعت النخب اليهودية المثقّفة بعد الحرب العالمية الثانية أن تغرس في نفوس الغربيين عقدة التكفير عن (اضطهاد اليهود) ووجوب دعم الدولة الإسرائيلية والدفاع عنها، ويحرص اليهود أن تبقى تلك العقدة نافذة في الأجيال الغربية، ومتقلقلة في مصفوفة البناء التشريعي لتلك الدول عن طريق تحريم إنكار المحرقة أو الجهر بعداء السامية!
تلك هي الأعمدة الأربعة التي تفسّر استخدام العنف الذي لا سقف له من قبل إسرائيل، سواء الاغتيال والأرض المحروقة، أو حتى بالدعوة لاستخدام القنبلة الذرية!
(خاص "عروبة 22")