ثقافة

المهاجرون ومعضلة "اللغة"... لا عربية للصغار ولا فرنسية للكبار!

باريس - مزن مرشد

المشاركة

أمران على طرفَـيّ نقيض يعاني منهما المهاجرون العرب إلى فرنسا، فيما يتعلق باللغة. أوّلهما تعلّم اللغة الفرنسية وما يرتبط بها من صعوبات، وثانيهما تعليم أولادهم اللغة العربية، خاصة الأطفال الذين وصلوا إلى فرنسا في سن مبكر أو ولدوا هنا.

المهاجرون ومعضلة

اختلاف كبير تشهده دول اللجوء الأوروبية في طريقة تعليم لغة البلاد للاجئين السوريين، تتربّع فرنسا في المركز الأول من حيث سوء الخدمة في هذا المجال، تحديداً بين معظم هذه الدول إن لم نقل جميعها.

على سبيل المثال لا الحصر تُلزم السويد أي لاجئ أو مقيم فيها بسنة دراسية في مدرسة متخصّصة، بتعليم السويدية لغير الناطقين بها، وتعتمد منهاجًا واضحًا في التدريس، بحيث يُنهي اللاجئ هذه السنة وهو قادر على التحدّث بلغة البلاد وإن كان ينقصه شيء من الممارسة، فسيكون من السهل عليه أن يعوّضها بمفرده بعد أن ملك مفاتيح التواصل وإمكانية العمل، وأحيانًا كثيرة إمكانية إكمال تحصيله الجامعي مهما بلغ من السن.

في ألمانيا كذلك يتشابه القانون بما يخصّ اللغة إذ يُلزم مكتب العمل اللاجئ بالالتحاق بمدرسة اللغة والتي تعطي منهاجًا أكاديميًا واضحًا أيضًا، ويستمر اللاجئ بدراسة اللغة طالما لم يتقنها، وبالتالي لا يمضي على لجوئه أكثر من عام ونصف العام حتى يكون قد فكّ شيفرة اللغة الجديدة، وامتلك أدواتها، وبات جاهزًا لكي يبدأ حياةً فعليةً في البلاد، هذا بالضبط ما تفتقده فرنسا مقارنةً بدول اللجوء الأخرى.

دورات "المراوحة"

"أوفي" أو مكتب الأجانب، يقدّم للاجئ والمقيم الأجنبي على حد سواء 200 ساعة مجانية، إجبارية لتعليم اللغة الفرنسية، وتختلف نوعية التعليم الذي تقدّمه هذه المراكز بين مدينةٍ وأخرى، وبين منطقةٍ وأخرى حتى ضمن المدينة الواحدة، ناهيك عن عدم وجود منهاج محدّد للتدريس مما يخلق حالة من الضياع لدى الدارسين والمدرّسين على حد سواء، إذ يتعيّن على كل أستاذ أن يختار المنهاج الذي يريحه، ومعظم هذه الدورات في غالبيتها، لا تهتم بالمستوى الفردي للشخص، وفي كثير من الأحيان يضمّ المركز صفًا واحدًا يجمع جميع المستويات معًا، فيتعذّر على الأستاذ التوفيق بين إعطاء أكثر من محتوى في الوقت نفسه، وهنا يلعب حظّ اللاجئ دوره في أن يكون تسجيله في مركز جيّد.

بالطبع توفّر الجامعات دورات فصلية لتعليم اللغة الفرنسية، وهي الدورات التي تُعطى للدارسين الأجانب القادمين من دول أخرى، لكنها مدفوعة، ويُعتبر رسم الدراسة فيها باهظًا بالنسبة للاجئ أو الوافد الجديد، وبالتالي تكون هذه الفرصة متاحة لمن يملك ثمن هذه الكورسات.

أما دورات الجمعيات الخيرية التي تنظّمها الجمعيات المرّخصة من قبل بعض العرب القدماء فكثيرة ومنتشرة في معظم المناطق الفرنسية، مقابل رسوم رمزية لا تتجاوز ١٥ يورو في السنة الدراسية، لكنها لا تختلف عن دورات مكتب الأجانب من حيث المستوى. فغالبًا ما يخرج منها اللاجئ كما دخلها بدون أي فائدة تُذكر.

ويبقى سؤال اللاجئين السوريين هنا: لماذا لم تستطع فرنسا أن تحلّ مشكلة تعليم اللغة للأجانب أسوةً ببقية دول اللجوء؟

العربية للصغار

في مقابل صعوبة تعلّم الفرنسية للوافدين، تظهر المشكلة المقابلة بندرة المراكز التي تعلّم الأطفال اللغة العربية.

هذه المهمّة تقع بكليّتها على عاتق الأسرة العربية هنا، فإن حافظت الأسرة على التحدّث باللغة العربية داخل المنزل، يبقى أنّ كثيرًا من الأُسر غير قادرة على تدريس قواعدها لأطفالها، لنواجه اليوم جيلًا جديدًا يتحدث العربية بلهجة أسرته، لكنه غير قادر على الكتابة أو القراءة بها، ما يقطع بالتالي أي صلة بينه وبين ثقافته الأم.

تعرض نجلاء، المقيمة هنا في فرنسا منذ تسع سنوات، مشكلتها لـ"عروبة 22"، فتقول: "بداية وصولنا إلى فرنسا مع أولادنا الأربعة انشغلنا أنا وزوجي بتعلّم اللغة الفرنسية، الأمر الذي أخذ منا كل الوقت والتركيز كي نستطيع إيجاد عمل وتأمين مستقبل جيّد لأولادنا، وبعد أربع سنوات من الجهد الجهيد انتهينا من اللغة والعمل، تقدّمنا للحصول على الجنسية لننتبه فجأة أنّ أولادنا خسروا اللغة العربية، فهم يتكلّمون بلهجتنا فقط، عدا ابننا الأكبر الذي درس في سوريا وثم لبنان حتى الصف الثالث الابتدائي، فهو يعرف الحروف، ويستطيع تهجئة القراءة، وهنا دخلنا في دوامة البحث عن جهة تعلّمهم دون فائدة، لنبدأ تعليمهم في المنزل، وهو أمر ليس سهلًا على الإطلاق".

 أما خديجة بن محمد، وهي جزائرية تعيش في فرنسا منذ أكثر من 15 عامًا، فأوضحت لـ"عروبة 22" المشكلة من باب آخر، إذ "تتجه جاليات المغرب العربي والجاليات المسلمة إجمالًا، إلى تعليم أطفالهم اللغة العربية عند إمام جامع المنطقة التي يعيشون فيها، فيأخذ الإمام دور الشيخ والمعلّم في تلقين الأطفال معرفتهم اللغوية والدينية"، غير انّ خديجة تنبّه إلى "خطورة الأمر" الذي اضطرها لإخراج أولادها من هذه الصفوف مرارًا، بسبب تطرّف بعض هؤلاء الشيوخ و"غسل أدمغة الأطفال مبكرًا وغرس أفكار خطيرة في رؤوسهم"، على حد تعبيرها.

اللغة... ثقافة وهوية

يفقد معظم أبناء المهاجرين العرب من الجيل الثاني والثالث لغة بلاده الأم، وينصهر في لغة بلد الهجرة، ما يؤدي إلى انسلاخهم عن ثقافتهم وأصولهم وضياع هويتهم الثقافية الأصيلة. فالحفاظ على اللغة الأم أمر يحتاج أولًا إلى إرادة جمعية، وأدوات وإمكانيات مناسبة.

ننظر إلى الأُسر الأرمنية في سوريا مثلًا، رغم هجرتهم التي قاربت المئة عام إلا أنهم حافظوا على لغتهم الأم وتناقلوها كتابةً وقراءةً، جيلًا بعد آخر، في كل أرض هاجروا إليها، بينما نلاحظ بالمقابل ضياع اللغة العربية بين أبناء الجاليات العربية خلال عدة سنوات لا أكثر.

وفي خلاصة هذه المعضلة، ترى سعاد كفري، مديرة مدرسة "بيا كندر" لتعليم اللغة العربية للأطفال في برلين، أنّ "مسؤولية تعليم الأطفال العرب في أوروبا لغتهم الأم، بطريقة منهجية ومشوّقة ليست مسؤولية دول الهجرة، وإنما هي مسؤولية المؤسسات العربية المهتمّة، والجالية العربية في البلاد الجديدة"، مشددةً في هذا المجال على أنّ "اللغة هي الحبل السري الذي سيحافظ على ارتباط الأطفال بهويتهم وثقافة بلدانهم وأصولهم".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن