عُقدت وانفضت القمة دون أن تترك أثرًا ملموسًا في حسابات القوى والمصالح المتداخلة في الحرب على غزّة رغم ارتفاع سقف خطابها إلى حدود غير معتادة.
موضع الاستثناء هو نفسه موضوع الانتقاد.
الاستثناء يعود إلى توقيت انعقادها فيما تحترق غزّة ويُدفع أهلها لمغادرة شمالها إلى جنوبها تحت ترهيب السلاح واستهداف أية مظاهر للحياة، المياه والمخابز والمدارس والمستشفيات وأماكن الإيواء الأممية.
اتساع قائمة الدول المشاركة لتشمل العالمين العربي والإسلامي معًا موضع ثانٍ للاستثناء، غير أنّ أنصاف المواقف استهلكت الجانب الأكبر من البيان الختامي، وهذا هو الانتقاد الرئيسي لما صدر عنها من قرارات.
القوى التي تطالبها القمة باستصدار قرار ملزم من مجلس الأمن هي نفسها التي توفر الغطاء لآلة الحرب الإسرائيلية
ندد وشجب العدوان الهمجي، قرر وأوصى دون أن تكون آلية التنفيذ جدية ومقنعة.
"مطالبة مجلس الأمن اتخاذ قرار حاسم ملزم يفرض وقف العدوان".
كان ذلك قرارًا حتميًا غير أنه قد لا يفرق كثيرًا عن مئات المطالبات المماثلة من دول ومنظمات دولية.
أين أوراق الضغط، التي تجعل لمثل ذلك القرار قوة الفعل والتأثير في معادلات القوى والمصالح.
في فقرة تالية وصف البيان "التقاعس عن ذلك تواطؤًا يتيح لإسرائيل الاستمرار في عدوانها الوحشي".
كان ذلك توصيفًا سياسيًا وأخلاقيًا صحيحًا، لكنه لامس سطح الحقائق دون صلبها، فالقوى التي تطالبها القمة باستصدار قرار حاسم وملزم من مجلس الأمن هي نفسها التي توفر الغطاء السياسي والعسكري والاستخباراتي لآلة الحرب الإسرائيلية.
بالنهج نفسه جرت مطالبتان مماثلتان، الأولى: "وقف تصدير الأسلحة والذخائر إلى سلطات الاحتلال". والثانية: "اتخاذ قرار فوري من مجلس الأمن يدين التدمير الهمجي للمستشفيات".
ممن نطلب بالضبط؟
هذا سؤال بديهي وإجابته بديهية.
إنها الولايات المتحدة ومن يتحالف معها.
لم تحدث أية مواجهة مع التواطؤ الأمريكي، ولا جرى أي تلويح في القرارات المعلنة بأوراق ضغط متاحة، مثل تجميد العلاقات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية مع إسرائيل، أو الامتناع عن إمداد الدول التي تدعم العدوان بالغاز والنفط.
وبالنهج نفسه، طلبت القمة من المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية استكمال التحقيق في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، التي ترتكبها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في جميع الأراضي الفلسطينية.
المطلب بذاته ضروري وقانوني، لكنه يخضع لإرادات دولية، متورطة في العدوان على غزّة.
لن تتم أية استجابة إلا تحت ضغوط شعبية وسياسية غالبة تتوفر مقدماتها في التظاهرات الشعبية بالعواصم والمدن الغربية الكبرى، مثل واشنطن ونيويورك ولندن وباريس وبرلين وميلانو، التي رافقت احتجاجاتها أعمال القمة، وبدت أكثر تأثيرًا في حركة الضغوط الدولية.
كان مستلفتًا وإيجابيًا رفض القمة إسباغ أية شرعية على جرائم الحرب الإسرائيلية بذريعة "الدفاع عن النفس".
هذه سردية إسرائيلية شائعة يزكيها ويلح عليها الخطاب السياسي والإعلامي الغربي ولا يصلح التوقف عنها بطلب أو رجاء.
موازين القوى تلعب الدور الأكبر.
يستلفت النظر في قرارات القمة قضيتان على درجة عالية من الأهمية والحساسية.
الأولى، إدخال المساعدات إلى غزّة المحاصرة.
في هذه القضية، التي لا يكاد أحد في العالم يختلف عليها من حيث المبدأ العام، بدا القرار حاسمًا وواضحًا في صياغته ووسائله دون مطالبة أو مناشدة، لكنه قصر تنفيذه وتحمل مسؤوليته وتكاليفه على مصر وحدها.
"فرض إدخال قوافل مساعدات إنسانية عربية وإسلامية ودولية، تشمل الغذاء والدواء والوقود إلى القطاع بشكل فوري".
الحديث هنا عن الفرض.
اللغة تختلف والوسائل لا بد أن تختلف بالضرورة.
في فقرة تالية: "دعم كل ما تتخذه مصر من خطوات لمواجهة تبعات العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزّة وإسناد جهودها لإدخال المساعدات بشكل فوري ومستدام وكاف".
من واجب مصر كسر الحصار على غزّة وإمدادها بكل احتياجاتها الضرورية مهما كانت التكاليف، فغزّة مسألة أمن قومي وهزيمة المقاومة تضر بمصر أكثر من غيرها.
المثير في الصياغة أنّ أحدًا لم يطرح على نفسه هذا السؤال:
إذا استدعت الظروف أن تدخل مصر حربًا حتى تمنع سيناريو التهجير القسري، الذي ما يزال ماثلًا، فما هي حدود الإسناد التي يتحدث عنها ذلك القرار؟
هنا تستبين حدود المواقف والسياسات، ويتأكد أنّ أنصاف المواقف لا تؤسّس لفاعلية وتأثير، أو لأي طموح عند دولة أو أخرى لقيادة المنطقة.
للقيادة أثمان وتكاليف.
والثانية، "رفض أي طروحات تكرّس فصل غزّة عن الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية والتأكيد على أنّ أي مقاربة مستقبلية لغزّة يجب أن تكون في سياق العمل على حل شامل يضمن وحدة غزّة والضفة الغربية أرضًا للدولة الفلسطينية التي يجب أن تتجسّد حرّة مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس الشرقية على خطوط الرابع من يونيو 1967".
لا يمكن تجاوز الذين قاتلوا وضحوا لصالح من وقفوا على الحياد ينتظرون ما قد تُسفر عنه الحوادث الدموية
القرار يتماشى مع كافة القرارات التي صدرت عن القمم العربية السابقة، ويتقاطع في توقيته مع التصوّر الأمريكي لليوم التالي بعد حرب غزّة.
يلح الأمريكيون على إسناد الإشراف عليها للسلطة الفلسطينية، والسلطة نفسها لا تمانع بشرط أن يتم في إطار سلام شامل، حتى لا تُتّهم بأنها استعادت غزّة على دبابة إسرائيلية.
القرار بحمولاته السياسية والاستراتيجية أقرب إلى قفزه في الفراغ، فالحرب لم تتوقف بعد، لا إسرائيل انتصرت ولا "حماس" هُزمت.
بأي اعتبار أخلاقي وسياسي لا يمكن تجاوز الذين قاتلوا وضحوا لصالح من وقفوا على الحياد ينتظرون ما قد تُسفر عنه الحوادث الدموية.
في جميع الاحتمالات والسيناريوهات، العودة إلى ما قبل (7) أكتوبر وهْمٌ كامل.
(خاص "عروبة 22")