استخدمت إسرائيل في غزة كل أساليب القتل والدمار والوحشية، ورغم أن الشعب الفلسطيني خاض أطول معركة تواجهها إسرائيل منذ إنشائها، فإنها لا تستطيع أن تدعي أنها انتصرت فما زالت غزه صامدة بأبطالها رغم أنها دفعت في هذه المواجهة أكبر ضريبة دم قدمها الشعب الفلسطيني منذ احتلال أرضه.. إن أهم ما قدمته غزة أنها حاربت وحدها وكبدت إسرائيل خسائر فادحة وظلت تواجه ببسالة حشود الجيش الإسرائيلي دون تراجع ..
كنت دائما أعتقد أن الأرض تحارب مع أصحابها وأن تراب غزة وقف صامدا أمام جيش العدو ، وأن حماس حاربت إسرائيل أربعين يوما قد تطول، وقدمت الآلاف من أبنائها وشبابها وأطفالها ونسائها وتهدمت مبانيها واحترقت مستشفياتها في هجمة بربرية أكدت وحشية الكيان الصهيوني، إن صمود غزه يذكرنا بالنماذج الإنسانية التي دافعت عن أرضها بشرف وكرامة.. كثير من العقلاء كانوا يؤكدون أن فلسطين لن تحررها إلا دماء شعبها مهما يكن الثمن ولا بد أن نعترف أن غزة قدمت أغلى ما لديها دماء وعمرا وبيوتا وأطفالا ولقنت إسرائيل درسا لن تنساه..
كان ينبغي أن يدرك رموز الشعب الفلسطيني أن المقاومة ينبغي أن تظل رافعة أعلامها وأن السلام وهم كبير مع عدو مغتصب، وأن انقسام الشعب الفلسطيني أكبر خطأ في حق الشعب والقضية.. وكان انقسام الشعب الفلسطيني على نفسه بداية الانشقاق في صفوفه ما بين جماعات أوسلو للسلام وجماعات المقاومة والسلطة الفلسطينية وعشرات الوعود وللأسف الشديد وقع الشعب الفلسطيني فريسة للقوى الدولية والإقليمية التي شجعت الانقسامات بين أبناء الشعب الواحد.. ولا شك في أن رحيل عرفات القائد والزعيم ترك آثارا كبيرة وفتح المجال أمام مزيد من الانقسامات في صفوف الشعب الفلسطيني وكانت أخطر هذه الانقسامات بين رموز حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية..
شهد العالم العربي أحداثا كثيرة دامية كانت قضية فلسطين أهم ضحاياها، وكانت الحرب الأهلية أخطر ما أصاب القضية حين اشتعلت الحرب الأهلية في سوريا وليبيا واليمن واحتلال أمريكا العراق والحرب الأهلية في السودان .. كان اشتعال الحروب في عدد من الدول العربية بداية تهميش القضية الفلسطينية، ثم جاءت ثورات الربيع العربي وأطاحت بعدد من القادة العرب الذين ارتبطوا تاريخيا بالقضية الفلسطينية..
لم يقتصر تهميش القضية الفلسطينية على غياب عرفات الزعيم أو القادة الذين ارتبطت بوجودهم، ولكن ذلك انعكس على الشعوب العربية التي لم تعد فلسطين في أولويات اهتمامهم.. ولعب الإعلام العربي أخطر أدوار التهميش أمام أحداث كثيرة وشجع على ذلك غياب رموز القضية.. لا يمكن لنا أن نتجاهل سلبيات اتفاقيات السلام والضجة التي أثارتها وما حدث من تغييرات رسمية بل وشعبية في العلاقات مع الكيان الصهيوني، خاصة أن دولا عربية فتحت أبوابها لهذا العدو القادم..
كان التطبيع من أسوأ المراحل في تاريخ العلاقات بين العرب وإسرائيل فقد اقتحمت بعض العواصم العربية وخلقت جماعات تعمل لحسابها وتنشر أفكارها وأطماعها، لقد نجحت إسرائيل في تجنيد خلايا تعمل لحسابها وتحولت إلى أبواق إعلامية وصلت إلى مؤسسات رسمية غيرت الكثير من الثوابت في مناهج التعليم بل وصلت إلى قضايا الدين والنصوص المقدسة..
لا بد أن نعترف أن ما حدث في ملحمة غزة أسقط أسطورة التطبيع ذلك الوهم الذي ضلل الشعوب العربية وقد غير حسابات كثيرة..
أولاً : إن قضية فلسطين عادت تفرض نفسها بقوة على العالم، وكانت المظاهرات الحاشدة في عواصم العالم أكبر دليل على الصحوة التي أصابت الشعوب وحركت ضمائرها وكانت فلسطين قد غابت تماما عن العالم بدوله ومؤسساته وحكوماته أمام الإعلام الصهيوني الكاذب.. لقد اهتزت حكومات كثيرة بسبب هذه المظاهرات وتحركت الأمم المتحدة والصليب الأحمر والصحة العالمية وأصيب العالم بحالة من الخوف والانزعاج أمام بشاعة ما حدث..
ثانياً : تأكد الشعب الفلسطيني أنه الأولى والأحق بأن يدافع عن أرضه ولا يترك مصيره لقوى تخلت عنه وشعوب نسيت قضيته..
ثالثاً : إن ملحمة غزة رسمت طريقا جديدا للشعب الفلسطيني لاسترداد أرضه وإقامة دولته، وأن المقاومة سوف تبقى الحل أمام عالم تحكمه القوة..
رابعاً : على الجميع أن يراجع مواقفه، أن أمريكا لن تبقى سيدة العالم لأن مصالحها في العالم العربي مهددة أمام الشطط وغياب العدالة، وعلى الشعب الأمريكي أن يعيد النظر فى سياسة حكوماته التي تشارك في قتل الشعوب وتدمير الأوطان، وعلى توابع أمريكا أن يرجعوا إلى تاريخهم الأسود في الاستعمار واستغلال ثروات الشعوب وكيف انتهت بهم الهزائم.. إن غزة الملحمة والصمود كتبت تاريخا جديدا وعلى الشعب الفلسطينى أن يكمل مسيرته..
إن ما حدث في غزة درس للجميع ، إن أول الدروس للشعوب العربية التي ينبغى أن تدرك أن إسرائيل عدو حقيقي، وأن أطماعها تتجاوز حدود فلسطين، وأنها كيان غريب لديه أهداف توسعية كثيرة ولن يتوقف عند حدود غزة أو الضفة أو القدس وأن حلمه في دولة تمتد من النيل إلى الفرات حلم حقيقي، وأن مواكب التطبيع لا بد أن تتوقف فقد انكشف هدفها واتضحت حقيقتها، إن الهرولة نحو التطبيع وتبادل السفراء وإبرام الصفقات ليست أكثر من تمهيد لمزيد من الأطماع والهيمنة.. إن غزة الصامدة وحماس المقاتلة هما الوجه الحقيقي للشعب الفلسطيني صاحب الأرض والقضية.. إن السلام حلم جميل، ولكن مع من يستحق السلام ويؤمن به.
("الأهرام") المصرية