وجهات نظر

الحرب "الأخرى"

فيما ننشغل جميعًا في رصد - فقط رصد - ما يجري في غزّة من وحشية غير مسبوقة، وفيما يبدو أن الآلة الإعلامية الإسرائيلية قد نجحت فيه باختزالها صراع حقوق عمره يزيد عن سبعة عقود في عنوان زائف مفاده "الحرب على حماس"، وفيما تدفع تحيّزات بعضنا إلى تصديق، بل وترويج الأكذوبة الإسرائيلية القائلة بأنّ "غزّة تدفع ثمن سيطرة حماس"، لا تبدو الضفة الغربية؛ مدنًا، ومخيّمات، ومزارع زيتون خارج خط المواجهة، بل تشهد كما كانت دومًا، بـ"حماس" وبدونها، اقتحامات يومية، واعتقالات، واغتيالات بدم بارد، وتجاوزات دموية من المستوطنين المستعمرين بحماية جيش الاحتلال نهبًا للمنازل والممتلكات، وتجريفًا لمزارع الزيتون، بل وقتلًا لمن يحاول التصدي لمثل تلك الأفعال.

الحرب

وصل عدد الشهداء في الضفّة في شهر واحد إلى ما يقارب المائتين، وفي طولكرم، وبرعاية قوات الجيش حطّم المستوطنون نصب ياسر عرفات لا الشيخ ياسين، ولم يعد هناك ما يوقف الوزيرين المتطرفين ايتمار بن غفير، وبتسلئيل سموتريتش، في اتخاذ ما يعن لهما من إجراءات عنصرية لإذلال الفلسطينيين، ثم كان أن عيّنت حكومة نتنياهو متطرفًا آخر هو عضو الكنيست نسفي سكوخوت، من حزب "الصهيونية الدينية"، رئيسًا للجنة المسؤولة عن شؤون الضفة. وبالطبع لم تجد البيانات الدبلوماسية للدول الغربية التي تطلب من إسرائيل كبح جماح المستوطنين من يعرها أي اهتمام.

انتبهوا أرجوكم، هذه ليست دعاية فلسطينية، ولا حديثًا ديماغوجيًا شعبويًا، فالمعلومات "الموثّقة" لهذه الانتهاكات/الجرائم مسجّلة بمعرفة btselem "مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة"، وأنا هنا أنقل اسمه (الرسمي)، والصحف الإسرائيلية ذاتها حافلة بالإشارة بل والتحذير مما يجري في الضفة، والتي تمثّل قنبلة موقوتة قاربت على الانفجار كما تقول افتتاحية "هآرتس" قبل أيام، "بسبب ما يفعله المستوطنون – المستعمرون - تحت نظر قوات الجيش، أو ربما بتواطئهم".

تحذّر الجريدة الإسرائيلية الحكومة "المهووسة بالانتقام"، بأنه وفي الوقت الذي تحاول فيه الخارجية الإسرائيلية الحفاظ على التأييد / الصمت الدولي على عملياتها العسكرية في غزّة، وفي الوقت الذي تُقدم فيه الولايات المتحدة على إرسال الأسلحة والأموال وحاملات الطائرات دعمًا لإسرائيل وردعًا لأعدائها المحتملين، يعمل المستوطنون في الضفة برعاية الجيش على إفساد الطبخة بأكملها.

أكثر من ثلاثين منظّمة حقوقية إسرائيلية وقّعت على بيان يشير إلى وقائع لم يلتفت إليها مَن يصدّقون أنّ القضية هي غزّة

لا يعنينا بالطبع "تحذير" الجريدة الإسرائيلية، أو قلق المحذرين من "إفساد الطبخة"، أو من فتح جبهة حرب أخرى، "بالإضافة للجبهة الشمالية المرشّحة للاشتعال"، أو أنّ "الانفجار بفعل الضغط" حسب وصف الجريدة، والذي جرى في غزّة مرشحٌ لأن يتكرّر في الضفّة، بل يعنينا أن يدرك بعض من لا يريد أن يدرك عندنا أنّ القضية ليست غزّة، وأنّ الصراع ليس مع "حماس"، وإن بدا في هذه اللحظة وكأنه كذلك.

يحكي محرّرو الجريدة كيف أنّ المستوطنين "المستعمرين" لا يكتفون بتجريف مزارع الزيتون، أو بمنع المزارعين الفلسطينيين - الذين يعتمدون عليه كمصدر وحيد للرزق - من قطافه، بل يصل بهم الأمر أحيانًا إلى أن يقوموا هم بجمعه "لحسابهم"، بزعم أنهم أصحاب الأرض، كما تقول موروثاتهم المقدّسة.

وفيما تشير الوقائع على الأرض إلى أنّ الإسرائيليين لم يتخلّوا عن خطتهم "الممنهجة" لإخلاء غزّة من سكانها إما بترتيبات دولية، أو بدفعهم "واقعيًا" إلى الحدود المصرية تحت ضغط التجويع، والقضاء الكامل على متطلّبات الحياة الأساسية، ناهيك عن القصف المتواصل، ربما لا يعلم كثيرون بأنّ أكثر من ثلاثين منظّمة حقوقية إسرائيلية وقّعت على بيان قبل أسبوعين يحمل نداءً إلى المجتمع الدولي يطالب بوقف "التهجير القسري لفلسطينيي الضفة الغربية هذه المرّة، ويشير البيان إلى وقائع موثّقة بهذا الخصوص، لم يلتفت إليها أحد من الذين يصدّقون أنّ القضية هي غزّة لا غيرها.

تحت عنوان "زيارة لدولة المليشيات" يحكي جدعون ليفي وأليكس ليفاك وقائع زيارتهما الميدانية في الضفّة الغربية، وكيف هالهما المدى الذي وصلت إليه "ميليشيات المستوطنين" والتعبير للصحفيين الإسرائيليين، الذين يصفونهم بأنهم "مجرمون بملابس عسكرية".

الحرب ليست مع "حماس" أو على غزّة، بل هي حرب عمرها يزيد عن سبعة عقود مع الحق الفلسطيني وأصحابه

يحكي الصحفيان الإسرائيليان كيف يظهر المستوطنون الملثّمون في ساعات الليل، بملابس عسكرية، يهددون، وينشرون الرعب، وأحيانًا، يضعون مسدسًا في رأس طفل، أو يرغمون مسنًا يبلغ من العمر 77 عامًا مثلما حدث مع عيسى صافي أن يغادر أرضه باكيًا، أو يرغمون آخر على المغادرة "حافيًا فوق الأشواك". هو الإذلال السادي لا غيره، و بعد أن يهدموا الأملاك ويحطّموا السيارات أو يستولوا عليها، يتلفون الزرع، ويخيفون القطعان، وبعدها يهددون السكان الخائفين بأنه في حال لم يقوموا بمغادرة منازلهم وأرضهم  خلال 24 ساعة، فإنهم سيعودون في الليل، ليتخلّصوا منهم. فتكون النتيجة الطبيعية الإنسانية أن يهجر الفلسطينيون أرضهم وديارهم تحت التهديد. هو "الترانسفير"، ولو لم يكن بقرار معلن من الدولة. أو بالأحرى هو محاولة لأن يعيش الفلسطينيون نكبتهم الثانية. أو بالأحرى إتمام ما لم تستطع إسرائيل تنفيذه خلال النكبة الأم 1948، كما تشير ولا تقول بذلك عميرة هاس في "هآرتس" قبل أسبوعين.

وبعد،،

فالثابت من التقارير والحكايا الإسرائيلية ذاتها أنّ ما يجري في غزّة على بشاعته لا ينفي ما يجري في الضفة. وأنّ الحرب ليست، كما يدعون ويصدّقهم البعض، مع "حماس" أو على غزّة، بل هي حرب عمرها يزيد عن سبعة عقود مع الحق الفلسطيني، وأصحابه.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن