تستحوذ الدولة العبرية، كما المستوطنون يستحوذون، يوميًا على أراضي الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس وأراضي فلسطين التاريخية، كما تمارس سياسة عنصرية تجاه الفلسطينيين، وتشنّ حروب الإبادة ضد البشر والشجر والحجر في غزّة.
تضرب الدولة نفسها في كل مكان من العالم باسم الحفاظ على أمن دولتها وسكانها، من لبنان إلى سوريا إلى العراق، وتونس، مع غارة "حمام الشط" المؤرّخة في فاتح تشرين الثاني/ أكتوبر 1985، ورغم كل ذلك فهي تدّعي أنها دولة علمانية وديمقراطية بل الدولة "الديمقراطية الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط" ويصدّق الغرب ذلك، ونصدّق نحن أحيانًا ذلك، بل نُعجب بمظاهر ديمقراطيتها أحيانًا لسبب أو لآخر.
يتغاضى الغرب عن الممارسات الإسرائيلية غير الإنسانية وينتفض مندّدًا بأدنى خرق لحقوق الإنسان في العالم العربي
أما الغرب فيُصفّق لإسرائيل ويبارك "إنجازاتها" المختلفة دون أي احتراز أو احتجاج أو حتى التذكير بضرورة احترام أدنى مبادئ حقوق الإنسان التي يدّعي الإيمان بها والعمل على هَديها، وأحيانًا الادعاء بفرضها.
وفي الوقت الذي يتغاضى فيه الغرب عن السياسة الإسرائيلية تلك، والممارسات غير الإنسانية فإنه ينتفض مندّدًا بأدنى خرق لحقوق الإنسان الأساسية التي تقوم بها أجهزة هذه الدولة أو تلك، في أي جزء من أجزاء العالم العربي، بالرغم من أنّ أي دولة من هذه "الدول المستبدة وغير الديمقراطية" حسب المعايير الغربية، لا تحتل أراضي الغير ولم تقم بشنّ حرب من أي نوع كان ضد أي دولة عربية أو غير عربية. بل لا يُعرف عن أي نظام من تلك الأنظمة أنه يرغب أو يتمنى احتلال إسرائيل أو إزالتها من الوجود أو حتى مشاركة الفلسطينيين تحرير أرضهم قولًا أو فعلًا.
توجد في إسرائيل "الديمقراطية" أحزاب يمينية متطرّفة، بينها حزبان دينيّان متزمّتان متشدّدان بالمقاييس الغربية، وهما حزب الصهيونية الدينية اليميني المتطرّف وحزب "القوة اليهودية"، وتشكّل هذه الأحزاب تكتّلًا مساندًا لزعيم الليكود بنيامين نتنياهو.
لا تعترف هذه الأحزاب بما تمخّضت عنه "اتفاقية أوسلو"، وتفرّعاتها، كما لا تعترف حتى بالحدود الدنيا من حقوق الفلسطينيين كما أثبتتها هيئات الأمم المتحدة، بل تنادي علنًا بترحيل الفلسطينيين من أرضهم.
تمكّن هذا اليمين وأقصى اليمين المتطرّف العلماني والديني من الوصول إلى السلطة في إسرائيل عدة مرات، وبالرغم من ذلك، لم يحتجّ الغرب عند وصول تلك الأحزاب اليمينية والدينية إلى السلطة، ولم ينزعج، لكنه ضغط ذات مرّة وأجبر رئيس اليمين المتطرّف في النمسا على تقديم استقالته لأنه يُعادي إسرائيل، واضطرّ هذا الأخير إلى تقديم استقالته مُكرهًا.
في المقابل، رفض الغرب الاعتراف بحكومة فلسطينية تقودها حركة "حماس" بالرغم أنّ الحكومات الغربية نفسها نظّمت الانتخابات التشريعية في فلسطين وأشرفت مؤسّساتها على سيرها وباركتها وثمّنت شفافيتها ونظافتها، حيث تظلّ حركة "حماس" في نظر الغرب حركة إرهابية ذات مرجعية أصولية، رغم أنّ قطاعًا واسعًا من الرأي العام العالمي والعربي يرى في "حماس" حركة مقاومة وطنية ذات خلفية دينية ولكنها لا تمثّل الإسلام المتشدّد، إضافةً إلى أنّها ليست مثل حركة "الطالبان" أو مثل تنظيم "القاعدة".
يُدين الغرب والعالم المتقدّم، وقطاع واسع من العرب المُتنوّرين فرض جماعة "الطالبان" في أفغانستان وبعض الدول العربية المتشدّدة قوانين وتقاليد لا تتماشى مع ما وصلت إليه الإنسانية من تقدّم واحترام لحقوق الإنسان، لكنّ الغرب نفسه يغضّ النظر عما يجري في إسرائيل من تطرّف سياسي وديني.
يعتبر المتديّنون اليهود مؤسسة الجيش الإسرائيلي أداةً أو وسيلةً يمكن من خلالها تحقيق "الوعد الإلهي"
ففي يوم عيد الفصح يُمنعُ في إسرائيل وصول كل أنواع الحمضيات خلال أسبوع كامل ويُمنع بالتالي تناولها. كما يُمنع تناول الخبز طوال أسبوع متواصل. وفي إسرائيل لا تسير الحافلات ولا القطارات في أيام السبت، كما تتوقّف حركة الطيران، ولا يُقدّم خلال هذا اليوم الطعام في كل إسرائيل، ولا تختلط المرأة بالرجل.
ورغم أنّ المتديّنين يمتنعون عن الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي بدعوى أنّهم يتولون مهمّة الحفاظ على الدين اليهودي حيًّا، إلا أنّ مجموعة من المتديّنين المتشدّدين تعتبر الصهيونية حركة قومية مكمّلة للدين اليهودي، لذلك يسعى هؤلاء للعمل في مؤسّسة الجيش الإسرائيلي معتبرين تلك المؤسسة أداةً أو وسيلةً يمكن من خلالها تحقيق "الوعد الإلهي"، وهي بالتالي لا تقلّ أهمية عن التوراة.
فمِنَ المحظور أن نخدع أنفسنا "فكل شيء في إسرائيل ديني، تقريبًا، من الميلاد حتى الوفاة مرورًا بالزواج والطلاق"، بتعبير أحد الصحفيين الإسرائيليين، واصفًا إسرائيل بأنّها دولة طغيان واحتلال ومجتمعها ظلامي جدًا.
أيّ علمانية هذه التي تماهي بين القومية والدين، في الوقت الذي لعب الدين دورًا رياديًا في تأسيس الكيان وبناء الدولة ويستمر في أداء الدور نفسه؟
تظلّ إسرائيل في نظر العالم، رغم كل ذلك، الدولة العلمانية والديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، ومن يزعم غير ذلك، فهو إرهابي معادٍ للديمقراطية وبالضرورة للسامية.
(خاص "عروبة 22")