لو لم يكن لعملية "طوفان الأقصى" مكسب سوى إعادة تموضع القضية الفلسطينية على رأس أجندة الاهتمامات الدولية لكفتها، فوسط موجات متلاحقة من الأزمات الدولية تناسى الجميع "أمّ القضايا" في العالمين العربي والإسلامي، لتتوه في زحمة الأحداث، ما بين انقسامات الداخل وخلافات المحاور والتحالفات السياسية في الخارج.
مكاسب عدّة حقّقتها العملية، ربما أهمها إعادة الحيوية وضخ الدماء مجددًا في شرايين قضية ظنّ البعض أنها تلفظ أنفاسها الأخيرة كمريض وضع على أجهزة التنفس الاصطناعي، بعد أن شبّ جيل عربي جديد متشبّعًا بمفردات قبول التطبيع مع الكيان الصهيوني، وهرولة بعض الأنظمة العربية لكسب رضا قادة الكيان إمّا بحثًا عن دعم يحسمون به صراعات داخلية على السلطة في بلادهم، أو تحت التأثير الزائف لآلة السياسة والإعلام الصهيونية بأنّ القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي باتت مفردات من ماضٍ ولّى ولن يعود.
رغم الألم الناجم عن مشاهد الخراب والدمار وقتل النساء والأطفال الذي خلّفته ولا تزال آلة الحرب الصهيونية المدعومة أمريكيًا وغربيًا دون مواربة، في قطاع غزّة المحاصر منذ نحو ستة عشر عامًا، والتي جاءت ردًا على الصفعة التي استفاقت عليها دولة الاحتلال في السابع من أكتوبر، إِلا أنها أعادت الاعتبار لقطاع كبير من الفلسطينين صوّر لعقود في بعض الروايات بـ"المتخاذل الذي تنازل عن أرضه بسهولة إبان النكبة، وقَبِل بالتهجير دون التمسّك بأرضه"، لترى الأجيال العربية الجديدة والتي تمّ تشويه وعيها ببعض السرديات الشاذة، عمليًا كيف اضطرّ أجداد هؤلاء لترك منازلهم وأراضيهم تحت وطأة إرهاب العصابات اليهودية التي تجمّعت من كل حدب وصوب، وسط خذلان وخيانات القريب الغريب.
حالة الجنون التي سيطرت على الكيان الصهيوني وداعميه، والتي جعلته يبحث عن ترميم هيبته المنهارة أمام طوفان المقاومة التي لا ترقى تجهيزاتها أو عتادها وإمكاناتها بأي حال من الأحوال لتنافس ذلك "الجيش الذي لا يُقهر"، جعلت الأجيال العربية الجديدة تشاهد على الهواء مباشرةً ربما جانب من الأهوال التي دفعت جزءًا من الفلسطينيين في الماضي لمغادرة أراضيهم في محاولة لإنقاذ فلذات أكبادهم على أمل تغيّر الأوضاع وإعادة ترتيب الصفوف والعودة مجددًا.
ردّ الاعتبار لم يقف عند الماضي فقط، ولكن شاهدت أيضًا تلك الأجيال ملحمة صمود جديدة ليس لها مثيل عندما فضّلت أسر فلسطينية كثيرة التمسّك بديارها رغم التهديدات الوحشية، قابضين على جمر الأرض الملتهبة تحت أقدامهم، رافضين تغريبة ثانية كتلك التي غرّبت آباءهم وأجدادهم مفضّلين الموت على نكبة جديدة وسط خذلان دولي وعربي واسع.
بمحاذاة طوفان المقاومة الذي سطّر تاريخًا جديدًا في المواجهات العسكرية العربية الإسرائيلية، كان هناك طوفان آخر فوجئ به الغرب المزيّف المنقلب على مبادئ طالما تباهى باحترامها، حيث حق البشر دون تفرقة في الحياة والعيش في حرية وأمان، ففي قلب العواصم وكبريات الميادين الغربية والأمريكية خرجت موجات عاتية من أبناء الأجيال الثانية والثالثة للمغتربين العرب والفلسطينيين هناك لتعيدهم عملية "طوفان الأقصى" وتداعياتها إلى جذورهم وتعيد مفردات القضية لقاموس تلك الأجيال التي ظنّت إسرائيل والغرب الداعم لها بأنهم أبادوها من عقولهم كما يحاولون الآن إبادة سكان غزة.
(خاص "عروبة 22")