جاء هذا الاجتراح ضمن سلسلة من المحاولات لتثقيف التاريخ بمصطلحات ونظريات تفيد التفوّق الأمريكي على أوروبا، أي أوروبا الثورة الفرنسية وعهد الأنوار.
وفي السياق نفسه، جاءت نظرية فرانسيس فوكوياما عن الليبرالية الجديدة كبيئة متخيّلة لحياة "الإنسان الأخير"، الذي يحتاج إلى أن يكون شيئًا آخر غير الذي تحدثت عنه الأديان أو الذي اختطفته الشيوعية لتتويج ارتقائها كآخر تمظهرات الفكر الإنساني.
لحظة انكشاف لعجز القوة الأمريكية عن التحلي بروح حضارية أو إنسانية تبرّرها كحضارة وليس كقوة غاشمة
لقد حاول الأمريكيون أن يدفعوا تفوقهم الاقتصادي والعسكري بطاقة فكرية أو فلسفية إنسانية بعيدًا عن الإرث الأوروبي بشكل خاص أو الديني بشكل عام، لكن تلك المحاولات كانت مستعجلة وحالمة أكثر مما توقع منظّروها، فلم يستطع هنتنغتون تبرير السبب وراء الصراع الحضاري من الناحية الفكرية، بل غرق في التعليل الانطباعي المبني على معطيات أقرب إلى اللحظية منها إلى التاريخية.
كما لم يستطع فوكوياما تعريف "الإنسان الأخير" كحالة إنسانية واقعية، وإنّما تحدث عنه كمشروع أمريكي ضمن حملة الشعارات الكبرى للمستقبل.
وشاءت الأقدار، أن تأتي اليوم لحظة انكشاف أكثر واقعية لعجز القوة الأمريكية عن التحلي بروح حضارية أو إنسانية تبرّرها كحضارة وليس كقوة غاشمة، لأنّه مع أحداث غزّة، اتّضح للجميع أنّ إسرائيل جاءت لتضع الغرب أمام المرآة وتسلّط الضوء على ما آل إليه المشروع الإنساني الذي بذلت فيه البشرية أثمانًا غاليةً وقاسيةً، حيث واجه الإنسان الغربي حقيقة بنائه وبنيته الإنسانية وهي تنكشف عن وحشية بلا حدود في الوقت الذي ظنّ أنه مشروع "إنسان أخير" وأنه نِتاج وثمرة الحلم الإنساني.
يرى الإنسان الغربي اليوم، من انتخبهم، بإعلامهم وعلاقاتهم ونفوذهم، وهم يُميّزون بين الأطفال القتلى، ويبكون على موت إنسان ويسعدون لموت آخر لأسباب دينية أو عرقية. يرى أيضًا كيف يتمّ دكّ المستشفيات والمدارس ودور العبادة بآخر اختراعات الإنسان الغربي، وأحدث ابتكاراته العسكرية، ويتأكّد أيضًا، كيف أصبح باستطاعته أن يكذب ويعترف بكذبته بعد ساعة.
منذ كذبة أسلحة الدمار الشامل العراقية، بدأ إنسان فوكوياما الأخير في تجاهل الكذب العلني من ساسته ومنتخبيه وجنوده ولا يزال يصدّقهم وهم يعترفون ويعترف الواقع بأنهم يكذبون.
المنظّمات الدولية لـ"الإنسان الأخير" تقف متفرّجة اتجاه أحوال ثلاثة ملايين من البشر يُساقون إلى الموت بلا رحمة ولا تردّد
استطاع "الإنسان الأخير" أخيرًا، أن يصل إلى حالة متقدّمة من الكفر بكل شعاراته المتعلّقة بالحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان، فها هو يحجب أسماء الدول والمنظّمات والأشخاص من عالمه الحر ويُهدّد مستخدمي هذه الأسماء بفقدان حقّهم في الوجود الحرّ على منصّات التفاعل الاجتماعي.
ها هو يمنع الماء والطعام والدواء عن المدنيين في أوج الحرب دون أن يشعر بوخز في ضميره المرهق بالأوهام، وها هو ينكشف أما أطفاله وهو يُبرّر ويشرّع قتل الأطفال وتدمير المدارس على رؤوسهم، ومن بوسعه أن يصرف النظر عن حالة المنظّمات الدولية لـ"الإنسان الأخير"، من منظّمات إنسانية وقانونية وعسكرية، وهي تقف متفرّجة في صمت، اتجاه أحوال ثلاثة ملايين من البشر يُساقون إلى الموت بلا رحمة ولا تردّد.
يجري هذا قبل منعطف فرانسيس فوكوياما، وليس فوكوياما وحده اللافت في سلوك الاستعلاء النظري، بل هناك ما هو أكثر واقعية في تبرير هذا التوجه عالميًا، وهو تهميش العقلانية وازدراؤها وغيابها أو تغييبها غير المنطقي عن موقع التأثير الفكري.
(خاص "عروبة 22")