فمتى تم الترخيص بتأسيس حزب سياسي أساسه الانتماء الجهوي فإنّ ذلك القبول يعني قبول الانفصال والتجزئة في الكيان السياسي الواحد، وبالتالي ضرب الدولة في القاعدة التي تقوم عليها وهي اجتماع المكونات البشرية وانصهارها في بوتقة واحدة. ومتى قبل المشرّع أن يسمح بتأسيس حزب سياسي يكون المصدر فيه والموجّه هو الانتماء الإثني؛ فإنّ ذلك القبول سيعني فتح الباب على مصراعيه أمام نزعات التعصّب للعرق أو القبيلة، وما دون ذلك.
وفي استطاعتنا أن نتحدّث عن دواعي أخرى مثل الجنس (الذكورة أو الأنوثة)، واللغة، والوظيفة. بيد أننا سنحجم عن ذلك لنتحدث عما يصح اعتباره أشد أشكال الدعوة إلى تأسيس حزب سياسي في عالمنا العربي وهو الدين أو، في عبارة أخرى، اعتبار الانتماء إلى دين معلوم شرطًا ضروريًا وكافيًا للإعلان عن ميلاد حزب سياسي والترخيص له بممارسة الحياة السياسية الطبيعية. ذلك أننا نرى في قبول ذلك نيلًا بليغًا من الديمقراطية الناشئة أو المأمولة في وطننا العربي.
صرح الدولة الحديثة الواحدة يضم ذوي المشارب المشتركة
رُبّ سائل يتساءل: لمَ يكون الأمر مقبولًا في دول ولا يكون كذلك في أخرى؟ الواقع أنّ دولًا أوروبية عريقة في الممارسة الديمقراطية تبيح ذلك، ونحن نذكر من بينها إسبانيا، فرنسا، إيطاليا، بلجيكا دون أن نغفل عن ذكر أقواها (الحزب الديمقراطي المسيحي في ألمانيا). والواقع أيضًا أنّ الشأن كذلك في دول عديدة من أمريكا الجنوبية، فنحن نذكر (البرازيل، الأرجنتين، الباراغواي، التشيلي...). لمَ، إذن، نرى في بناء حزب سياسي في العالم العربي يكون المصدر فيه هو الدين وحده عملًا غير مقبول؟ كيف ترى في ذلك البناء تهديدًا للديمقراطية ودعوة للتشتّت ولا تعتبره شكلًا من أشكال التعدّد المحمود في الحياة السياسية السليمة؟
نود، في الرد على هذا الاعتراض الافتراضي (والوجيه في الآن ذاته)، أن ننبّه إلى أمرين اثنين:
الأمر الأول هو أنّ كل الدول التي تمّت الإشارة إليها دول استقرت الممارسة الديمقراطية فيها منذ ما يقارب القرنين بالنسبة للبعض فقد ترسخت فيها قيم المواطنة، وبالتالي تشرّبت مبدأ الانتماء إلى الوطن الواحد وحيث أنّ من تجليات تلك الممارسة أن يتعوّد الناس على الفصل بين المجالين العام والخاص، والدين بعض من المجال الخاص، فإنّ الانتماء إلى حزب سياسي باعتبار الحزب آصرة أو فضاء يترجم إرادة عامة مشتركة - داخل الإرادة العامة الكبرى التي يوكن عنها قيام التعاقد الاجتماعي، وبالتالي إقامة صرح الدولة الحديثة الواحدة يضم ذوي المشارب المشتركة وبالتالي فليس على الوحدة السياسية خوف، وليس يكون في الدين، من جهة هذا المنظور، ما يهدّد ذلك الكيان السياسي.
ظلّ الانتماء إلى الثقافة العربية الإسلامية هو المشترك الذي يصنع الوحدة
الأمر الثاني يتعلّق بالبنية الثقافية العميقة التي تصنع وعي الشعوب وتمدّها بالمشترك (مع فتح الراء) الذي يكون الاجتماع حوله، وبالتالي تتحقق الوحدة. والبنية الثقافية العربية العميقة تجعل للدين مكانًا هائلًا في المخيال الجماعي المشترك. يصح القول، بكيفية أخرى، إنّ الوجود الاجتماعي في الفضاء العربي الإسلامي، على النحو الذي نشأ به ذلك الوجود وتطوّر قضى بأن يكون "الديني" مكوّنًا من مكوّنات الوعي العربي، في تجلياته السياسية والاجتماعية، بل والاقتصادية (وبالتالي في تجلياته الثقافية الأساسية) نوعيًا يمرّ عبر قناة الدين ويتم التصنيف بموجبه - كل هذا من جهة أولى.
وأما من جهة ثانية، فقد ظلّ الدين الإسلامي تحديدًا هو العنصر الفاعل الأكبر في البنية الثقافية العربية العميقة التي نتحدث منها. وفي عبارة أخرى، ظلّ الانتماء إلى الثقافة العربية الإسلامية هو المشترك الذي يصنع الوحدة في كل المكوّنات البشرية لتلك الحضارة. وفي هذا الصدد لا يكون من الغريب ولا العجيب أن يتحدث العربي المسيحي عن عمق الانتماء إلى الحضارة الإسلامية. فكيف لا يكون في الاجتماع حول الدين إذن، في المجتمع العربي الإسلامي الواحد، في تأسيس الحزب السياسي في الوطن العربي، فرقة وتشتّت؟.
(خاص "عروبة 22")