لم يُزعج وزير الأمن الإسرائيلي بن غافير وكافة قيادات اليمين الديني التوراتي المتطرف أكثر من مشهد خروج الأسرى الفلسطينيين المدنيين في صفقة تبادل الأسرى. لماذا؟
نظرياً وحسابياً بأرقام الربح والخسارة، فإن كشف حساب فاتورة العمليات العسكرية الإسرائيلية 15 ألف شهيد، و30 ألف جريح، وخمسة آلاف مفقود، وأكثر من 60 ألف منزل مهدم في قطاع غزة «مساحته 360 كم مربع»، ونزوح أكثر من مليون وأربعمائة ألف فلسطيني وفلسطينية من المدنيين، معظمهم من النساء والشيوخ والأطفال.
بمنطق الجبروت والتطهير العرقي بالعقل الإسرائيلي، الذي يدعي أنه ممثل للعقل السياسي الأنجلو ساكسوني، فإن إسرائيل هي صاحبة اليد العليا في هذه الجولة، منذ 8 أكتوبر حتى 24 نوفمبر.
ولو قبلنا ادعاءات نتنياهو ووزير دفاعه غالانت أن قيادة القسام وافقت على عمليات تبادل الأسرى نتيجة قوة العمليات العسكرية في الغزو البري لنطاق غزة، ذلك نظرياً ومنطقياً يجب أن يملأ القيادة الإسرائيلية والرأي العام الإسرائيلي «اليمين الحاكم» بـ«الزهو والفخار العسكري بالنصر المبين»، ولكن الحادث والواقع هو العكس.
من تابع احتفالات الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة بعد خروج المجموعة الثانية من الأسرى من النساء والأطفال، فسوف يكتشف أن الشعب الذي تحمل أكبر حجم من الخسائر البشرية والمادية منذ الحرب العالمية الثانية «إحصاء حجم الدمار مقابل زنة قنابل القصف» كان هو «السعيد الفرح غير المنكسر»!
إنه مشهد تاريخي يشكل لغزاً لعلماء الاجتماع السياسي لتفسير ظاهرة كيف يفرح العربي بالشهادة والدمار، ويحزن الإسرائيلي ذو اليد العليا المدججة بأكبر ترسانة سلاح في المنطقة؟
ذات السؤال طرحه وزير الحرب الإسرائيلي الجنرال موشيه ديان يوم 10 يونيو 1967 حينما تظاهر الشعب المصري فرحاً بعودة عبد الناصر رغم فقدان كامل شبه جزيرة سيناء في 6 ساعات.
ما هذا السر في عدم انكسار هذه الجماهير أمام جنون القتل الإسرائيلي؟
كان التوقع الإسرائيلي أن يخرج أهل غزة من هذه الجولة كارهين لاعنين رافضين لـ«حماس»، التي تسببت بعمليتها يوم 7 أكتوبر إلى قتلهم وتدمير بيوتهم ونزوحهم، لكن الجماهير خرجت، مساء أمس، تهتف لـ«حماس».
معايير الحروب عالمياً شيء، وعربياً شيء آخر.
مقاييس الانتصار والهزيمة في العقل الأنجلو ساكسوني تقاس بفاتورة الربح والخسارة بالأرقام والضحايا.
رغم ذلك كله القاتل منزعج ومرتبك، والقتيل يرفض الاعتراف بالموت.
("البيان") الإماراتية