لقد كانت الإصابات والتشوّهات الخطيرة في بنية مجتمعات البلدان التي عانت من الاستعمار، متفاوتة القوة سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، لكنها بقيت جميعًا ضمن إطار التخريب القاسي الذي أصاب عديدًا من مجتمعات العالم خصوصًا تلك التي عانت من نكبة الاستعمار، هذا التخريب أنتج بدوره أعراضًا لعلل مرضية مزمنة، ظهر بعضها بمجرد بدء مسيرة انسحاب المستعمر وبعضها الآخر تأخر قليلًا.. رأينا ذلك يحدث في أقطار أمّتنا العربية من حيث شيوع الاستبداد والفساد وتأسيس نظم حكم قمعية وفاسدة تقاوم الزمن.
الديكتاتورية تعادي كل قيم ومنجزات مسيرة التحضّر الإنساني
إذن عندما نتحدث عن بلاء الديكتاتورية خصوصًا ذلك النوع المتوحّش، فإننا لا بد أن نراها ضمن حقيقة أنها وباء عام ابتليت به مناطق واسعة من كوكبنا، حفنة منها ما زالت جاثمة فوق صدور عدد من الشعوب حتى الآن.
بعض الديكتاتوريات ارتقى مدارج التوحّش والهمجية لدرجة صُنع آيات مرعبة من الجنون الإجرامي وجسّد على نحو بليغ فظاعة الديكتاتورية عمومًا، وكيف هي تعادي وتتناقض عمليًا مع كل قيم ومنجزات مسيرة التحضّر الإنساني الطويلة.
بول بوت تبنى نظرية مفرطة في التطرّف أطلق عليها «الاشتراكية الفلاحية»
أما مناسبة هذا الكلام (لو كان لأيّ عربيّ أن يحتاج لمناسبة) فهو أنه قبل أيام (19 مايو) مَر مرور الكرام ربع قرن من الزمان على وفاة واحد من أحط وأبشع الديكتاتوريين في التاريخ ومن أكثرهم جموحًا وجنونًا، إنه الديكتاتور المجرم «بول بوت» الذي حكمت عصابته «الخمير الحمر» دولة كمبوديا الصغيرة الواقعة في قلب منطقة الهند الصينية لمدة تزيد قليلًا عن ثلاث سنوات (١٩٧٩-١٩٧٦) صنع خلالها نموذجًا إجراميًا مروعًا. يكفي للدلالة على حجم بشاعته أن ما يربو على ربع سكان هذا البلد (نحو ثلاثة ملايين من أصل حوالى سبعة ملايين كمبودي) قُتلوا خلال هذه السنوات الثلاث بسبب ممارسات وسياسات متفوّقة في الشذوذ والإجرام اتّبعها ونفّذها هذا الدكتاتور العاتي وزمرة عصابته.
كان المجرم بول بوت يتبنى نظرية مفرطة في الجنون والتطرّف أطلق عليها «الاشتراكية الفلاحية» تقوم على فرضية أنّ الفلاحة هي النشاط الاقتصادي الوحيد الذي يقي البشر من انحرافات وتشوهات الرأسمالية، واعتمد لتطبيق نظريته المخبولة تلك وسائل تخطت كل الحدود في الشذوذ والخبل، إذ توهّم أنّ بإمكانه إعادة هندسة المجتمع والبشر على نحو رآه يخدم نظريته، وفي هذا السياق اعتبر كل سكان المدن ملوثين بأدران وأفكار الرأسمالية، وحتى يطهّرهم من هذه الأدران أجبر سكان المدن جميعًا، بما فيها العاصمة، على الهجرة القسرية إلى مزارع جماعية عشوائية وبدائية تمامًا، وفرض على كل المواطنين ارتداء ملابس بالية سوداء، لكنها ربما كانت أقلّ سوادًا من أيام الحياة التي عاشوها في انتظار الموت وهم مجبرون على العمل في المزارع تحت ثقل ظروف لا مثيل لها من حيث البشاعة والقسوة، ومن دون الحصول على ما يسدّ الرمق من الغذاء، إذ كان زبانية الديكتاتور يوزّعون وجبة واحدة فقط على الملايين الذين حُشدوا غصبًا للعمل في هذه المزارع التي حُرموا من ثمرات إنتاجها واكتفى القائمون على إدارتها بتوزيع كميات قليلة من الأرز المطبوخ لمرّة واحدة فقط في اليوم.
معسكرات تعذيب ومزارع قتل بطيء زجّ فيها بنخب المجتمع من مثقفين وفنانين ومهنيين وأطباء
أدى العمل تحت ثقل هذه الظروف الرهيبة إلى موت مئات الألوف من الجوع وشدة بؤس الأحوال وغياب أية رعاية صحية أصلًا، ومن لم يمت في مراكز ومعسكرات التعذيب الرهيبة قضى نحبه في مزارع القتل البطيء التي زُجّ فيها بكل من اعتبرهم «بوت» وأركان عصابته «ملوثين برجوازيًا» لدرجة لا ينفع معها التطهير والإصلاح، ومنهم كل نخب المجتمع من مثقفين وفنانين ومهنيين (بمن فيهم الأطباء) والموظفين، إضافةً إلى كلّ من يثبت معرفته بأية لغة أجنبية.. بل إنّ مهرجان الإبادة والقتل الجماعي لم يوفّر حتى الأشخاص الذين يلبسون نظارات طبية!!.
(خاص "عروبة 22")