السّـؤالُ مشـروعٌ، بـل هـو ضروريٌّ، لأكثـر من سبب. نكـتـفي بالإشارة إلى بعـضٍ رئيـسٍ من تلك الأسباب:
أوّل الأسباب لأنّ الغالـب على التّـفكيـر في السّـياسـة والسّياسيّ، في نطـاق ما يُـكـتَب اليـوم في المـوضوع، التّأرجُـح بين حـدَّيْ الوصـف والتّـقـرير، من جهـة، والدّرس والتّـحليل المبـنيَّـيْن، في الأكـثـر، على المعطيات الوقائـعيّـة المستـفادة من الفـعْـل الأوّل (الوصـف والتّـقـرير)، من جهـةٍ ثانيـة. أكثـرُ عمـل أجهـزة الصِّحـافـة والإعلام، مـثـلًا، منـصرِفٌ إلى الضّـرب الأوّل من التّـناوُل؛ حيث السّياسـيُّ كنايـةٌ عـن وقائـعَ وأوضـاع تـفـتـرض وصـفاً هـو، في صـورته، خبـرٌ عنها.
السّيادة التي انـعقدت لعلوم الاجتماع والسّياسة ليست تعني الكثير لفلاسفة السّياسة على وجه التّحديد
أمّـا الضّـرب الثّـانـي من التّـناول فـتُعْـنى بـه مياديـن دراسيّـة بعيـنها يحتـاز المشتـغلـون بها مواردَ معرفـيّـةً ومنهجيّـة تسمح لهم بتجاوز النّـظـرة الوصـفيّـة التّـقريـريّـة إلى حيث يـقيـمون الرّبـط بين الوقائـع والبحث في عواملها ودواعيها واشتـقاق استـنتـاجات بصددها، أو تكـويـن تصـوُّرٍ متكـامـل نسبيّـاً عنها. ومع أنّ زاويـتـيْ الصّـلة هاتيـن بالمجـال السّياسيّ تـتـوسّـلان في الاستـخـدام المفـرداتِ والمـفاهيمَ عـينَـها، إلاّ أنّ درجـةَ وعـي دلالاتها تـخـتـلف من زاويـةِ رؤيـةٍ إلى أخـرى؛ فـفيما هي تكون مفاهيـم مُـدْرَكـة، نسبيّـاً، في ميادين الدّراسات السّياسيّـة، تكـاد أن تُـسْـتَـبْـدَه وأن لا يُـفـكَّـر في ما تعـنيه من دلالات في نطاقـات استخـدامـاتـها الصِّـحفيّـة والإعـلاميّـة.
ثـانيـها؛ أنّ مياديـن الدّراسـات والأبحـاث الأكاديميّـة لمسائـل المجال السّـياسيّ الأكثـر سيادةً، اليـوم، هي مياديـن العلـوم السّياسيـّـة والعلـوم الاجـتماعيّـة: علم السّـياسـة، علم القانـون (العامّ والدّسـتـوريّ خاصّـةً)، علم الاجتماع السّياسـيّ، الأنثـروپـولوجـيا السّـياسيّـة...إلخ. وما عـاد يسعُ فـلسفـةَ السّياسـة أن تـزاحـم هذه المياديـن الدّراسيّـة على موضوع السّياسيّ التي شـرعت تَـتَـنَاهَـبُهُ، منذ أوائـل القـرن العشريـن، وذلك بعد ردْحٍ من الزّمـن طـويلٍ كانتِ الكلمـةُ فيه في هـذا الشّأن للـفلسـفة (قبل أن يزاحمـها عليه، في العصـور الوسطـى، اللاّهـوت وعلم الكـلام والـفـقه). على أنّ تلك السّـيادة التي انـعـقـدت لعلـوم الاجتمـاع والسّياسـة - إمّـا بقـوّة أحكام الأمـر الواقـع أو لنجـاعـة طرائقـها في تناوُل السّياسـيِّ ومسائِله - ليست تعـني الكثير للفلاسفـة، ولفلاسفـة السّيـاسـة على وجـه التّحديد؛ ولا هي تحْـملهم على التّـفريط بحـقّ الفلـسفـة في التّـدخُّـل العلميّ في مسائـل الحقـل السّياسيّ، ولا بتحـقيـق إشـباعٍ معـرفيّ في الموضوع من طريقِ ما تقـدّمـه الدّراسات المتحـقّـقة عنه في تلك المياديـن. لذلك يـَظـلّ للـفلسفـة والفلاسفـة مكانـهما المحـفوظ، فـلسفـيًّا، وفي الزّمن الرّاهـن، للانخـراط في عـمليّـة بناء معـرفـةٍ بمسائـل المجال السّياسـيّ من مـوقـعٍ فـلسـفيّ ينمـاز عـن مواقـع النّـظر الأخـرى إلى تلك المسائـل.
لماذا لا يحتفظ الفلاسفة لأنفسهم بالحقّ في التّدخُّل المعرفيّ في مسائل السّياسة والسّياسيّ؟
أمّـا ثـالثـها فلأنّ الإطـار المرجـعيّ لمفاهيـم السّياسـة جميـعِـها ليس شيئـًا آخـر سوى الفلسفـة؛ فهي كانت - وما بـرحت - مصنـعَ إنتاج تلك المفاهيـم، منذ عـهـدها الإغـريقـيّ قبل ألـفيـن وأربعمائـة عـام حتّـى اليـوم. ومنها (= من الفـلسـفة) قطعت تلك المفاهيـم السّـياسيّـة شـوط رحلتها المديـدة بين عـلوم الدّيـن والدّنيـا والاجتماع، فاصـطبغـت بأصباغ تلك العلـوم والمعارف، وأُضـيفَ إليها ما ليس منها في أصـوله لكنّ الاقـتـران بتلك المعارف اقـتـضـاهُ وفَـرَضـه، لكنّـها ظـلّـت - في الأعـمّ الأغـلـب منها - مشـدودة إلى أُطـرها الدّلاليّـة الأولـى التي اكـتـسبـتْـها، كمفـاهيـم، من الفلسفـة. ولأنّ مفاهيـم السّـياسـة في الفلسفـة مبـنيّـةٌ على قواعـدَ نظـريّـةٍ صارمـة، على نحـوٍ لا تَمِـيـعُ فيه دلالـةُ الواحـدِ منها في دلالـة الثّـاني، وَطَـنَ في أَخْـلادِ الفلاسفـة أنّـهم وحـدهم وأكثـر مِـن سواهـم مَن يملك أن يَـسْدُن المعـرفةَ بمسائـل المجـال السّياسيّ (الدّولـة، السّـلطـة، أنظمـة الحكـم، الدّسـتور، المواطـن... إلخ)، وأن يحـافِـظ لها على نِـصابـها النّـظريّ ودقّـة جهازهـا المفهـوميّ.
لـماذا، إذن، لا يحـتـفظ الفلاسفـة لأنفسـهم بالحـقّ في التّـدخُّـل المعـرفيّ في مسائـل السّياسـة والسّـياسيّ، وفي إنتـاج قـولٍ فـلسـفيٍّ في شـأنـها وهُمْ مَـن هُم في باب العِـلْم بأحوالهـما؟.
(خاص "عروبة 22")