تقدير موقف

غزّة "الإسرائيلية".. حديث الوثائق

عندما يكون لدينا ثلاث وثائق، في ملفات/محفوظات ثلاث جهات مهمة، يصبح لزامًا علينا أن نعطي للأمر ما يستحقه من أهمية.. واهتمام.

غزّة

فكما أنّ القصف الهمجي اليومي المستمر للشهر الثالث نراه على الشاشات رأي العين، كذلك النوايا والخطط الإسرائيلية للقطاع وأهله. ومن الغفلة، إن شئت لغة مهذبة، أو دبلوماسية، غض الطرف أو تجاهل مثل تلك النوايا المعلنة.

الوثيقة الأولى إسرائيلية رسمية، يعود تاريخها إلى الثالث عشر من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وأعدها مركز حكومي للأبحاث والسياسات، وظيفته وضع أوراق عمل سياسات تفصيلية بالخطط المقترح تنفيذها من الحكومة أو الجيش أو الأجهزة الأمنية الأخرى، ورغم أنه لا يتبع جهاز الاستخبارات الإسرائيلية مباشرة، إلا أنّ اسمه The Israeli Ministry of Intelligence وطبيعة مهمته تعطي لأوراقه ووثائقه غير المنشورة أهميتها الخاصة.

الوثيقة التي تقع في عشر صفحات عنوانها بالعبرية ما ترجمته بالإنجليزية: Policy paper: Options for a policy regarding Gaza's civilian population

وهي تناقش، على سبيل الحصر البدائل الثلاث فيما يتعلق بمصير فلسطينيي القطاع، لتخلص، وهذا مربط الفرس، إلى أنّ البديل الوحيد المقبول، إسرائيليًا هو ذلك القائم على استراتيجية النقل الكامل لسكان خارج القطاع، مع ضرورة حشد المجتمع الدولي لدعم مثل هذه الخطة، ولمنحها "شكلًا" من الشرعية، يمكّنها من تجاوز محظورات القانون الدولي ذات الصلة.

تشير الورقة، وتناقش تفصيلًا ثلاثة بدائل Options:

1. بقاء "السكان المحليين" في غزّة، مع عودة السلطة الفلسطينية لإدارته.

2. بقاء السكان مع إيجاد سلطة محلية عربية.

3. تفريغ Evacuation القطاع من سكانه، ونقلهم إلى سيناء.

ثم تناقش الورقة الإسرائيلية "الاستخباراتية" هذه البدائل الثلاثة، وتقارن بينها وفق المعايير الآتية:

- القدرة على التنفيذ من الناحية التشغيلية.

- القدرة على إضفاء الشرعية القانونية (الدولية، والمحلية).

- القدرة على إحداث تغيير أيديولوجي ومفاهيمي (de-Nazification) بين أفراد المجتمع السكان فيما يتعلق باليهود وإسرائيل.

- الآثار الاستراتيجية بعيدة المدى.

تناقش الوثيقة الإسرائيلية الخطة الاستراتيجية لتنفيذ التهجير عندما تصبح غزة "مكانًا غير قابل للعيش"

قد لا يتسع المجال هنا لعرض تفصيلي لما ورد في الوثيقة الإسرائيلية، ولكن ما يهمنا هنا أنها تخلص إلى أنّ البديل الثالث؛ أي "تفريغ القطاع من سكانه ونقلهم إلى سيناء" هو البديل الوحيد الذي يحقق لإسرائيل نتائج استراتيجية مطلوبة، وفضلًا عن أنه بديل قابل للتنفيذ كما يتوهم واضعو الوثيقة، فهو لا يتطلب سوى التركيز على دعم الولايات المتحدة والدول المؤيدة تاريخيًا لإسرائيل، وهو الأمر الذي سيكون ممكنًا تحت شعارات إنسانية عندما تصبح غزّة "مكانًا غير قابل للعيش" بفعل ما ستحدثه القوة الإسرائيلية على الأرض.

لا تعليق مناسب هنا. فالورقة الإسرائيلية تلك، ورغم ما قد يراه البعض فيها من تفاؤل اسرائيلي مفرط، إلا أنّ من الحكمة أن نرى أنّ ما يجري على الأرض، تدميرًا، وتصريحات، ومناورات دبلوماسية يرجح ما تذهب إليه. وأنّ العائق الوحيد في طريقها هو المقاومة الفلسطينية على الأرض (وتحتها). وأنّ العقبة الوحيدة في طريق الخطة الإسرائيلية لمستقبل سيناء هو ما تقوم به "حماس" وبقية فصائل المقاومة في غزّة. رحم الله جمال حمدان، وطارق البشري، ومحمد حسنين هيكل الذين نبهونا مرارًا وتكرارًا إلى حقيقة أنّ الأمن القومي المصري يبدأ من الشرق.

الوثيقة الأمريكية تقايض المساعدات الأمريكية باستقبال فلسطينيي غزّة في أربع دول إسلامية

الوثيقة الثانية، والتي لم يمكنني للتو الوصول "المباشر" إليها، ومن ثم التأكد من مصداقيتها، عرضت لها جريدة Israelhayom في تقرير موسّع (مع الخرائط، والجداول، والأرقام) مما يجعل منها - على الأقل - بالون اختبار لا يصح تجاهله.

تعود الوثيقة إلى العام 2017 وهي، حسب الصحيفة الإسرائيلية ضمن أوراق الكونجرس الأمريكي، وبالتحديد ضمن وثائقه الخاصة بالمساعدات US Foreign Aid ويقول واضعوها ما نصّه:

"لقد وضعنا خطة لقطاع غزّة وسكانه تضمن سلامة وأمن شعب إسرائيل وتعمل أيضًا كحل للأزمة الإنسانية وأزمة اللاجئين في قطاع غزّة".

وصولًا إلى هذه الأهداف، تحدّد الخطة الأمريكية ثلاث خطوات:

1. إخلاء قطاع غزّة بالكامل.

2. إعادة بناء مدينة إسرائيلية rebuild an Israeli city في قطاع غزّة!

3. يجب نقل هؤلاء الغزّيين الذين ليس لديهم صلة بالإرهاب ونقلهم relocated and transferred إلى البلدان الإسلامية التي تتلقى مساعدات من حكومة الولايات المتحدة يمكن تخصيصها لرعاية هؤلاء اللاجئين.

تتحدث خطة 2017 هنا عن أربع دول إسلامية تتلقى مساعدات من الولايات المتحدة الأمريكية؛ هي مصر وتركيا والعراق واليمن. وبالطبع تحظى مصر بنصيب الأسد في عدد المفترض تهجيرهم من الفلسطينيين.

مع "انفوجراف"، وخرائط توضيحية، وأرقام موثقة، كعادة الأمريكان يبرهن واضعو الوثيقة/المقترح على وجاهة خطتهم بجدول من خمسة أعمدة يبيّن مقابل كل دولة: عدد سكانها، وعدد الفلسطينيين (الغزّاويين) المقترح تهجيرهم إليها، وبالتالي نسبة هؤلاء المهجرين إلى عدد السكان، لتبيان أنها نسبة لا تذكر (المليون فلسطيني المقترح تهجيرهم إلى مصر مثلًا لن يمثلوا أكثر من 0.9٪ من إجمالي عدد السكان)، ويخصص العمود الأخير في الجدول للمساعدة المالية (التشجيعية) التي من المفترض أن تقدّمها واشنطن إلى الدول التي تستقبل هؤلاء المبعدين من أرضهم (التوصيف الحقيقي من عندي).

وحسب تقرير الجريدة، فيبدو أنّ المشروع القديم نسبيًا جرى إحياؤه على يد مجموعة من النواب يقودهم عضو مجلس النواب المخضرم جوي ويلسون. والذي يفضّل أن يظلّ مشروعه (في تلك المرحلة) بعيدًا عن الأضواء "ليمكن إنضاجه مع الشركاء بعيدًا عن الشوشرة الإعلامية"، كما يقول المقرّبون من الرجل.

يبقى من باب المفارقة هنا أنّ كاتب تقرير/تسريب الجريدة الإسرائيلية، فيما بدا اتساقًا مع توجيهات "وزارة الاستخبارات" الخاصة ببناء الصورة الذهنية، حرص في بداية تقريره على التأكيد على أنّ "إسرائيل تسعى إلى تجنّب إيذاء المدنيين، لكن حماس هي التي لا تسمح للاجئين بالمغادرة، ومصر هي التي لا توافق على فتح حدودها".

الدبلوماسي البريطاني لشيمون بيريس: هل تفكّرون في العريش كبديل نسبي لغزّة؟

الوثيقة/الوثائق الثالثة بريطانية، وهي للمفارقة الدولة الاستعمارية التي أتت بالكيان الإسرائيلي إلى هذه المنطقة.

تعود الوثيقة إلى سبتمبر/أيلول عام 1971، وقت كانت سيناء تحت الاحتلال الإسرائيلي، وتكشف مراسلات الخارجية البريطانية، التي تم كشف النقاب عنها عن خطة إسرائيلية سرية لترحيل الفلسطينيين من غزّة إلى مناطق أخرى على رأسها العريش المصرية. وأنّ كلامًا في التفاصيل دار بين المستشار السياسي للسفارة البريطانية في تل أبيب آنذاك، وشيمون بيريس؛ السياسي الإسرائيلي المؤثّر ووزير الدفاع والخارجية ورئيس الحكومة ورئيس الدولة في إسرائيل لاحقًا.

يومها سأل الدبلوماسي البريطاني بيريس: هل تفكّرون في العريش كبديل نسبي لغزّة؟

فكان ردّه؛ الصهيوني بامتياز: إنّ استخدام "المساكن الخالية" يظل دائمًا القرار المناسب.

وكعادتها، كانت الحكومة الإسرائيلية على استعداد لمواجهة الانتقادات الدولية لمخالفتها اتفاقات جنيف بهذا الصدد، "ولكن النتائج العملية والاستراتيجية كانت على الدوام الأهم، بالنسبة لإسرائيل"، كما جاء في تقرير السفير البريطاني في تل أبيب بعد لقائه ببيريز.

وبعد،

فصحيحٌ أنّ وسائل إعلامنا العربية الرسمية ما تنفك عن ترديد الأخبار المطمئنة عن رفض عربي "معلن"، ورفض دولي "رسمي" لمثل هذه الخطوة باعتبارها "مخالفة صريحة للقانون الدولي"، إلا أنّ مثل هذه "الوثائق" (أكرر: "وثائق")، فضلًا عن التصريحات "الرسمية" المتكررة لمسؤولين إسرائيليين، والتسريبات المتواترة عن ما يدور في الغرف المغلقة، أو الاتصالات الهاتفية المؤمّنة، يظل على الأقل مقلقًا، حتى لو كانت تلك التسريبات، أو التصريحات مجرد "بالونات اختبار" تكاثرت حتى ملأت سماءنا الملبّدة أصلًا بالشكوك والوهن، فضلًا عن أنّ نص ما قاله بايدن قبل أيام في خطابه احتفالًا بالعيد اليهودي Hanukkah ربما يحتاج إلى مراجعته. فرئيس الدولة؛ ذات الهيمنة الملحوظة في المنطقة، والذي قال في القدس إنه يعتزّ بصهيونيته، قال في خطابه في الغرفة الشرقية للبيت الأبيض أمام المحتفلين اليهود:

I’ve personally spent countless hours … with the Qataris and the Egyptians, the Israelis to secure the freedom of hostages, (…), to get — have El Sisi make sure he opened the gate into Egypt

أعرف أنّ الرئيس الهرم المشغول بصناديق الاقتراع، لا يعرف تاريخ المنطقة جيدًا، وأعرف صلابة الموقف المصري "العلني" في هذا الصدد، وسمعت بعناية وزير الدفاع المصري يحذر الإسرائيليين من طرف خفي في خطاب ليس له سابقه. ولكني أعرف أيضًا قدر التعقيدات على الأرض، وما طرأ، لأسباب مفهومة من اختلال لموازين القوى "والمكانة"، كما أعرف قطعًا الحكمة في أن "نعمل بالأسباب"، فضلًا عن أن نبرأ؛ من المحيط إلى الخليج من أعراض الغفلة، أو على الأقل "التفكير بالتمني".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن