ورغم أن استطلاعات الرأي التي كانت تجريها المنظمات الفلسطينية المختصة قبل بدء العدوان الصهيوني كانت تشير إلى تراجع شعبية "حماس" في قطاع غزّة، حيث تتولى مسؤولية إدارة الحياة اليومية منذ طرد السلطة الفلسطينية التابعة لمحمود عباس في العام 2007، فإنّ الوضع اختلف تمامًا بعد عملية "طوفان الأقصى" بسبب الانبهار بالنجاح الكبير الذي حققه مقاتلو "كتائب القسام" وتمكّنهم من تحطيم أسطورة التفوّق المطلق للكيان المحتل باستخدام أسلحة بدائية وبسيطة في مواجهة جيش يمتلك أحدث الأسلحة الأمريكية والتكنولوجيا المتطورة. فالخسارة البشرية التي لحقت بالكيان الصهيوني في يوم واحد لم يسبق أن تحققت منذ تأسيسه عام 1948، بما في ذلك كل الحروب التي خاضها ضد الجيوش العربية.
وربما تكون شعبية "حماس" الآن، وفقًا لتلك الاستطلاعات، أكثر ارتفاعًا في الضفة الغربية المحتلة والقدس منها في غزّة، لأنها لا تتولى مسؤولية إدارة الحكم هناك ولا تواجه الاتهامات التقليدية بالفساد والمحسوبية التي تلاحق كل الحكومات العربية في ظل غياب الشفافية والقمع الأمني، إلى جانب الخسائر البشرية المهولة والكابوسية التي يدفعها سكان القطاع منذ انطلاق حرب الإبادة الصهيونية.
غالبية الفلسطينيين الآن يميلون لدعم "خيار المقاومة" وهو الأمر الذي تتفوّق فيه "حماس"
ومقابل ذلك، فإنّ السلطة الفلسطينية بقيادة عباس انهارت شعبيتها في كل الأراضي الفلسطينية، ليس فقط بسبب الفساد والاستفادة من أموال المعونات التي تأتي من الشرق والغرب، ولكن أيضًا لفشلها الذريع في تحقيق حلم إقامة الدولة، بل واتهامها بالتعاون الأمني مع سلطات الاحتلال من أجل ضمان بقائها.
وبعد ثلاثين عامًا من اتفاق أوسلو الذي وقّعه الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، تشير الاستطلاعات إلى أنّ غالبية الفلسطينيين فقدوا الثقة تمامًا في خيار المفاوضات والحلول الدبلوماسية، خاصة بعد أن انشغلت دول المنطقة العربية بهمومها، وانهار عمليًا عدد منها كان لها في السابق تأثير على القضية الفلسطينية كما هو حال العراق وسوريا وليبيا، بالإضافة إلى اليمن والسودان.
أما مصر فانشغلت بمشاكلها الداخلية في أعقاب ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 والمواجهة الدموية مع تنظيم "الإخوان" ووضع اقتصادي متدهور وشديد الصعوبة.
وبالتالي، فإنّ غالبية الفلسطينيين الآن يميلون لدعم ما يُعرف بـ"خيار المقاومة" وهو الأمر الذي تتفوّق فيه حركة "حماس"، بل وتتزعمه الآن في أعقاب عملية "طوفان الأقصى".
قيادة الحركة تصرّفت بذكاء عند بدء التفاوض بشأن تبادل الأسرى مع حكومة الاحتلال، وحرصت أن يكون غالبية من تم إطلاق سراحهم من السيدات والقُصر من سكان الضفة الغربية والقدس وسط هتافات لـ"القسام"، ولذلك فإنّ أي حديث يردده الأمريكيون والصهاينة عن استحالة العودة إلى أوضاع ما قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والتداول بشأن إمكانية عودة السلطة الفلسطينية الحالية لتولي المسؤولية في غزّة بدلا من حركة "حماس" هو أيضًا من قبيل الأوهام. والأقرب للتحقق للأسف، وفقًا لما ألمح إليه وزير الدفاع الأمريكي لويد اوستين في أعقاب جولته الأخيرة في المنطقة، هو أن يواصل عمليًا احتلال الجيش الصهيوني لأجزاء من القطاع مع شن عمليات نوعية بناء على معلومات استخباراتية لقتل قيادات "حماس" ومقاتليها، وهو ما يحدث الآن في مختلف مدن الضفة الغربية.
وبجانب البُعد الفلسطيني الداخلي الداعم للمقاومة والذي يتنامى مع استمرار الاحتلال العنصري وتنامي نفوذ اليمين الصهيوني الذي يدعو جهارًا نهارًا لتهجير الفلسطينيين وقتلهم، وكذلك تبني "حماس" للعقيدة الجهادية الإسلامية التي تُمجّد الموت في سبيل الله من أجل تحرير الوطن والمسجد الأقصى من أيدي "اليهود"، فإنّ ما لا يمكن إنكاره كذلك هو أنّ "حماس" تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى عضو فاعل فيما يُعرف بـ"محور المقاومة" بقيادة إيران الشيعية والذي يضم "حزب الله" والنظام السوري والتنظيمات العراقية الشيعية والحوثيين في اليمن.
ورغم أنّ "حماس" كانت تُعتبر الفرع الفلسطيني لجماعة "الإخوان المسلمين" التي نشأت في مصر كحركة سنّية محافظة تهدف لإقامة الخلافة بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية قبل قرن، فإنها اختارت أن تنحي البُعد الطائفي جانبًا، وذلك لسبب عملي رئيسي وهو أنه لم يعد هناك أي أطراف إقليمية أخرى يمكن أن تقدّم لها الدعم المادي والعسكري سوى إيران.
حتى لو تمكن العدو الصهيوني من اغتيال كبار قادتها فستنشأ تنظيمات وقيادات أخرى تواصل المسيرة حتى التحرّر
وطالما أنّ الولايات المتحدة لا ترغب في مواجهة عسكرية مباشرة مع إيران، وغير قادرة عمليًا على ذلك في الوقت الحالي في ظل انشغالها بحرب أوكرانيا ومواجهة روسيا والصين، بجانب إدراكها أنّ تلك المغامرة الخطيرة ستشعل المنطقة برمتها، بدءًا بدول الخليج النفطية ومرورًا بكل الدول المنضوية تحت لواء "محور المقاومة"، فإنّ ذلك يعني أن حركة "حماس" ستبقى رقمًا مهمًا وفاصلًا في الداخل الفلسطيني، وسيكون من المستحيل "القضاء" عليها كما يتوهم نتنياهو ووزراؤه الدواعش، وكذلك الرئيس الأمريكي جو بايدن.
ويبقى المخرج الوحيد من هذه المعضلة، واحتمال تغيير معادلات توازن القوى في الداخل الفلسطيني هو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة، وهو الخيار الذي يفتخر نتنياهو أنه "أجهضه" وسعى بكل السبل لإفشاله على مدى ثلاثة عقود.
وطالما استمر هذا الإنكار الصهيوني وتمسك قادة الكيان بالحفاظ على آخر احتلال عنصري في العالم، ستبقى "حماس"، وكل منظمات المقاومة الفلسطينية الأخرى، وحتى لو تمكن العدو الصهيوني من اغتيال كبار قادتها والنيل من مقاتليها، فستنشأ تنظيمات وقيادات فلسطينية أخرى تواصل المسيرة حتى التحرّر والنصر.
(خاص "عروبة 22")