المؤكد أنّ معادلة النصر أو الهزيمة في معارك الجيوش واضحة في كل حروب العالم، من حرب الحلفاء ضد دول المحور في الحرب العالمية الثانية، مرورًا بحروب الجيوش العربية في مواجهة إسرائيل وانتهاءً بحرب روسيا ضد أوكرانيا.
فجيوش الحلفاء كان يجب عليها أن تهزم الجيش الألماني لكي تحرّر فرنسا وباقي الأراضي التي احتلها، وأوكرانيا لو أرادت عودة سيادتها على الأقاليم الأربعة التي سيطرت روسيا على معظمها فإنها ستحتاج إلى هزيمة الجيش الروسي على الأقل في هذه الأقاليم، أما الجيوش العربية فسنجد مثلًا أنّ مصر لم تنتصر عسكريًا في حرب 56 ولكنها انتصرت سياسيًا وهي ربما من التجارب القليلة في العالم التي عرفت هزيمة لجيش وفي الوقت نفسه عرفت صمودًا شعبيًا أدى إلى انتصار سياسي ساحق قادت على أثره مصر تجارب التحرّر الوطني في العالم كلّه، كما أنها هُزمت عسكريًا وسياسيًا في حرب 67 واحتلت إسرائيل سيناء لأكثر من عقد من الزمان، ثم عادت مصر وحققت انتصارًا عسكريًا غير كامل في حرب 73 ونجحت في عبور قناة السويس، وعادت وبسطت سيادتها على سيناء عبر مبادرات الرئيس السادات السياسية والتي لم تكن محل توافق عربي وفلسطيني لأنها اعتُبرت حلولًا منفردة.
هزيمة تنظيمات المقاومة معاييرها ليست مثل معايير هزيمة الجيوش النظامية
النصر والهزيمة واضحين في معارك الجيوش، ولكن الأمر أكثر تعقيدًا في معارك الشعوب أي تلك التي يدخل فيها الناس طرفًا في المعارك مثلما جرى في مصر والعالم العربي أثناء العدوان الثلاثي أو كما جرى في تجارب التحرر الوطني في العالم كلّه حين واجهت الشعوب القوى المحتلة بنضال شعبي أو مسلّح كما حدث مع جبهة التحرير الوطني الجزائرية أو المؤتمر الوطني الأفريقي أو مع فصائل المقاومة المسلّحة في غزّة.
والحقيقة أنّ وضع معيار مختلف للحكم على الانتصار أو الهزيمة في معارك التحرر الوطني لا يرجع إلى محاولة التخفيف من آثار أي هزيمة عسكرية محتملة لـ"حماس" أو أي تفكيك لقوّتها العسكرية، فسير المعارك مع فارق القوى الهائل بين جيش الاحتلال وقوات "القسّام" لا يسير في صالح الأخيرة، وإذا خسرت الحرب، فإنّ هذا لا يعني تحت أي ظرف خسارتها معركة التحرر والاستقلال.
المؤكد أنّ خسائر الجانب الفلسطيني تمثّل تقريبًا أكثر من 20 ضعف خسائر الجانب الإسرائيلي، وأنّ اكتشاف قوات الاحتلال لعدد ليس بالقليل من الأنفاق الحمساوية في غزّة يعني أنّ إضعاف "حماس" عسكريًا صار واردًا، ولكنه لن يعني نهايتها أو اجتثاثها كما يتحدث قادة الاحتلال، لأنّ هزيمة تنظيمات المقاومة معاييرها ليست مثل معايير هزيمة الجيوش النظامية حيث تكون الحصيلة واضحة - أبيض وأسود - كما جرى مع الجيشين المصري والسوري في هزيمة 67، ولكنها ليست كذلك حين يتعلق بتنظيم مقاوم يستمد قوّته ليس فقط أو أساسًا من تنظيمه العسكري إنما من بيئته الحاضنة التي تناضل من أجل التحرر والاستقلال ويصبح معيار الهزيمة ليس خسارة حرب إنما قبول الاحتلال والتسليم بسلب الإرادة وهو ما لم يحدث بالنسبة للشعب الفلسطيني منذ النكبة وحتى الآن.
إنّ الحاضنة الشعبية لأي تنظيم مقاوم، سواء كان "حماس" أو غيرها، قادرة على أن تفرز تنظيمًا آخر مهما كان اسمه أو بنيته العقائدية وسيكون هدفه الوحيد هو زوال الاحتلال وليس الانتصار على الجيش الإسرائيلي كما تفعل الجيوش النظامية إذا دخلت حربًا ضد إسرائيل.
لم يحدث في عالمنا المعاصر أن انتصرت قوة احتلال على قوة مقاومة رغم فارق العدة والعتاد، فالفارق بين مقاومة فيتنام وأقوى جيش في العالم (أمريكا) كانت هائلة ومع ذلك انتصرت فيتنام، والفارق بين جيش فرنسا وجيش التحرير الجزائري كانت ضخمة ومع ذلك انتصرت المقاومة الجزائرية، وسيبقى الفارق هائلًا بين قدرات جيش الاحتلال الإسرائيلي وفصائل المقاومة الفلسطينية، فهي لا تمتلك الطائرات والدبابات والسفن ومعها أحدث المعدات والأسلحة الأمريكية، ولكنها تمتلك الإرادة والصمود ولا تعتبر هدفها هزيمة الجيش الإسرائيلي إنما أن يتكبّد خسائر كبيرة وأن تستنزف قوته بصورة تجبره في النهاية على إنهاء الاحتلال.
لم تنجح إسرائيل في القضاء على مشروع المقاومة الذي ينتظر دورة جديدة للعودة مرة أخرى
صمود الشعب الفلسطيني وفصائل المقاومة لأكثر من شهرين بطولة. صحيح أنّ الثمن باهظ في هذا العدد غير المسبوق من الضحايا المدنيين الذي بلغ وفق تقرير المجلس الأورومتوسطي لحقوق الإنسان 25 ألف شهيد بينهم حوالى 10 آلاف طفل، ولولا الانحياز الغربي الفج لجرائم إسرائيل لحوكم قادتها بتهمة ارتكاب جرائم حرب.
ستنتهي حرب غزّة قريبًا وستبدو إسرائيل وكأنها منتصرة عسكريًا بعد أن تكون أضعفت جانبًا كبيرًا من قوة "حماس" العسكرية، وقتلت مع سبق الإصرار والترصد 25 ألف مدني، ولكنها خسرت أولًا المعركة الأخلاقية، كما أنها لم تنجح ثانيًا في القضاء على "حماس" ولا على مشروع المقاومة الذي ينتظر دورة جديدة للعودة مرة أخرى.
(خاص "عروبة 22")