غزة تئن، الفلسطينيون يمرون بأيام قد تكون هي الأسوأ على مر تاريخهم، هكذا تبدو الصورة لكل المتابعين، ولكن المدقق بشكل جيد، قد يرى أبعادا أخرى لتلك الصورة الممتلئة بالحزن على ما يجري في غزة. فمنذ السادس والعشرين من أكتوبر المنقضي، يوم قررت إسرائيل الدخول البري لقطاع غزة، وما تحققه من خسائر قد فاق كل التوقعات، فـ 163 قتيلا بين ضابط وجندي، و189 إصاباتهم خطيرة، و310 إصاباتهم متوسطة، و327 إصاباتهم بسيطة، تلك الأرقام التي أعلنها جيش الاحتلال الإسرائيلي.
وفي مقابلها، أعلنت المقاومة الفلسطينية أرقاما أكبر بكثير، دعمتها بفيديوهات مسجلة توثيقا لما تعلن، تأكيداً لمصداقيتها، والحقيقة أن حرب أكتوبر 1973، والتي مٌني فيها الجيش الإسرائيلي بخسارة مهينة، لم يعلن الرقم الحقيقي من قتلاه إلا بعد أن توقفت الحرب بفترة ليست قصيرة. لذلك فالأرقام التي تعلنها المقاومة الفلسطينية أقرب للصدق مما تعلنه إسرائيل عن أعداد القتلى من جنودها. وهذا يعني أن إسرائيل تحقق فشلا كبيرا من جراء الدخول البري لقطاع غزة، أضف لذلك فشلها التام في تحقيق ما أعلنت عنه من أسباب لدخول القطاع، فلم تٌحرر أسيرا واحدا من أسراها، كما لم تكبد المقاومة الفلسطينية خسائر يمكن أن يشار إليها!
الاقتصاد الرسمي الإسرائيلي حقق خسائر قدرها البعض بما يفوق 50 مليار دولار، وإذا أضفنا انعكاس ذلك على المجتمع الإسرائيلي، فسنكتشف أن الرقم قد يزيد بشكل كبير، خاصة أن عائلات الجنود التي تم استدعاؤها، يعانون من توقف عملهم نتيجة التحاقهم بالجيش، والرقم المستدعى كبير للغاية، وصل لـ360 ألف جندي، يمثلون ما يقارب من 8% من سوق العمل الإسرائيلي. بخلاف ما أعلنته بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية عن الظروف المعيشية السيئة التي يعيشها هؤلاء الجنود، فهم يعانون من نقص في الإمكانات، وكذلك الأغذية التي تصل إليهم، مع وضع معيشي سيء جدا، وهو ما لا يجعل هناك مكاناً يتسع للنوم يكفي الجنود، الذين ينام أغلبهم داخل المركبات، حتى البدل الواقية من البرد، المتاح، غالبا يكفي النصف فقط. وهذا على لسان الإعلام الإسرائيلي بما يعني أن هناك معاناة غير محتملة يمر بها الجنود، ومما لا شك فيه أن ما خفي كان أعظم. بكل تأكيد ذلك يؤدي إلى أن يسري داخل نفوس الجنود شعور بالإحباط، وهو ما يؤدي إلى أداء مهامهم بكفاءة أقل و أحيانا تكون معدومة.
الدعم الذي حصلت عليه إسرائيل من أمريكا وعدد من الدول الأوروبية على رأسها بريطانيا وألمانيا، غير مسبوق، عسكريا وسياسياً، فعسكريا، أدى إلى هدم ما يقارب من 70٪ من بيوت الغزيين، وتدمير شامل وكامل للبنى التحتية، بشكل يجعل الحياة مستحيلة. والرهان الإسرائيلي يقوم على تحويل غزة إلى مكان لا يصلح للحياة على الإطلاق، كوسيلة ضغط على الفلسطينيين. وسياسيا، تواصل إسرائيل ارتكاب مجازرها ليل نهار، دون توقف، حتى وصل عدد شهداء العدوان إلى أكثر من 20 ألف شهيد، وما يفوق الـ 53 ألف جريح، ولأن الإعلام العربي ينقل ما ترتكبه إسرائيل من جرائم ضد البشرية، لدرجة أنهم قتلوا إسرئيليين رفعوا الرايات البيضاء ولم يكتشفوا مصيبتهم إلا بعد قتلهم، ليتأكد للعالم، أن إسرئيل لم ولن ترغب في العيش بسلام، بل تسعى بكل قوتها لإبادة الفلسطينيين، وأنها ليست واحة للديمقراطية في الشرق الأوسط، كما جاهدت أن تسوق لنفسها، ولكن أمرها افتضح بشكل تام، وليست هي فقط، بل إن أمريكا أثبتت لكل المتابعين، أنها ليست الشرطي العالمي الأمين الذى يطبق معايير الحق والعدل، فحق الفيتو الذي استخدمته لإيقاف أي قرار لإدانة إسرائيل أو حتى لإقامة هدنة أوقفته، مما أجج المظاهرات في شتى أنحاء العالم منددة بجرائم إسرائيل ومطالبة بوقف العدوان.
تتعامل إسرئيل مع الموقف بنفس عقليتها القديمة، باعتبار أن أجواء ما فعلته من كوارث سابقة، ما زالت كما هي، ونسيت أن هناك جيلا جديدا من الشباب مواليد هذا القرن، لهم ثقافتهم الخاصة، جيل نقي، ينظر للأمور على حقيقتها، لم تلوثه الأفكار الحمقاء، أعلن عن مقاطعة كل الداعمين لإسرائيل، تلك المقاطعة، جعلت عدداً لا بأس به من تلك الشركات يعلن وبوضوح عن تحقيق خسائر كبيرة جعلته يستغني عن جزء غير قليل من موظفيه. ولنا أن نتخيل أنه إذا تحققت خسائر كبيرة لشركات متعددة الجنسيات عابرة للقارات الداعمة لإسرائيل، جراء مقاطعة قطاع عريض من شعوب الأرض لها، فما بالنا بإسرائيل نفسها وما بالنا بالدول الداعمة لها.
لذلك الوضع العالمي الآن، مختلف 180 درجة عما كان عليه صبيحة يوم السابع من أكتوبر، فإسرائيل تخسر كل يوم يمر عليها وهي داخل قطاع غزة، جنوداً وعتاداً وماليا وتخسر دعما دوليا، يتحول الآن إلى ضيق من أفعالها، وقريبا يصل إلى غضب ستعاني ويلاته بسبب ما ترتكبه من جرائم. تتظاهر إسرئيل بقدرتها اللامحدودة على مواصلة عدوانها على غزة، وهي تتمنى أن تتوقف، ليتوقف نزيف خسائرها، وحماس ترفض حدوث هدنة دون الموافقة على شروطها، وهذا يعني أن حماس ما زالت قادرة على مواصلة المواجهة، وتلك نقطة تجعل لها اليد العليا، حتى وان ادعت إسرائيل خلاف ذلك. لذلك إنهاء العدوان على غزة يبدو أنه بات وشيكا للغاية، طبقا لما تكشف عنه مجريات الأحداث المتلاحقة، وكما تهدف المبادرة المصرية الشاملة بمراحلها الثلاث، الأولى، هدنة تستمر لأسبوعين قابلة للتمديد مع تبادل للأسرى، الثانية، إقامة حوار وطني فلسطيني لإنهاء الانقسام، وتشكيل حكومة تكنوقراط تتولى ملفي الإغاثة وإعادة الإعمار، وصولا للمرحلة الأخيرة التي تتضمن انسحابا إسرائيلياً من قطاع غزة، ثم تمكين النازحين من العودة إلى مناطقهم في غزة حتى شمال القطاع.
("الأهرام") المصرية