الاستثناء الأول؛ عسكري وهو ارتفاع خسائر الجيش الإسرائيلي - 15 قتيل يوم الأحد الماضي وحده -، واعتراف إسرائيل بأنّ "حماس" و"الجهاد" وباقي جماعات المقاومة تتعلّم أسرع من جيش الدفاع دروس الحرب في الأسابيع الماضية، وأنها استطاعت استدراج جيشها إلى حرب عصابات تقول كل الحروب منذ حرب فيتنام إنّ الجيش النظامي حتمًا يكون الخاسر فيها.
يعترف الإسرائيليون، وهذا هو الأهم، أنهم وجدوا قصاصات ورق في جيوب بعض شهداء المقاومة تحدّد متى وكيف وأين يصطادون أفراد جيش الاحتلال، ونوع المواجهة هل هو تلاحم مباشر مع الأفراد أم عبوات ناسفة أم قذائف ضد الدروع أم قناصة يستهدفون كبشًا شرد عن القطيع. خطورة هذه القصاصات أنها تكشف أنّ سيطرة قيادة المقاومة العسكرية على وحداتها وتزويدها بالأوامر والتكتيكات العملياتية الجديدة ما زالت، ونحن نقترب من ٩٠ يومًا، قائمة ولم تنكسر.
الاستثناء الثاني؛ هو انفجار عفوي متزامن لتصريحات متعددة تعترف صراحة ودون مواربة بفشل الجيش الإسرائيلي في تحقيق أهدافه بل وهزيمته أمام "حماس" والمقاومة. هذه التصريحات صدرت لشخصيات من الوزن الثقيل وشملت رؤساء وزراء إسرائيليين سابقين – أولمرت، وباراك ووزراء خارجية مثل شلومو بن عامي ورؤساء موساد سابقين ونوابًا لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي -، والأخطر من ذلك مسؤولين أمريكيين سابقين ومحللين مشهورين غارقين في صهيونيتهم مثل مارتن آنديك وتوماس فريدمان.
ما سوف يسجل كنصر نهائي هو الطرف الذي سيستطيع توجيه مسار هذا الحدث الضخم نحو تحقيق أهدافه الاستراتيجية
تُجمع هذا التصريحات على أنه بعد مرور ١١ أسبوعًا لم تقترب القوات الإسرائيلية ولو حتى من منتصف الطريق، ولم تنجز هدفًا واحدًا لا في استئصال "حماس"، ولا في قتل قادتها السبع الكبار ولا في إخراجها كلاعب رئيسي من مستقبل المعادلة الغزّية والفلسطينية، وطبعًا، ولا استعادة لأسير واحد حيّ من قبضة المقاومة. كلهم يتفقون على أنه بنك أهداف غير واقعي ونتنياهو نفسه يعلم ذلك.
لكن أكبر ملمح للهزيمة في رأيهم ليس فقط في مباغتة وإذلال ٧ أكتوبر/تشرين الأول وتحطيمه لنظرية الردع الإسرائيلي القائمة على إخافة كامل محيطها الشرق الأوسطي العربي والإيراني، ولا الصمود الأسطوري للمقاومة، ولكن في فشل الجيش والاستخبارات في استعادة هذا الردع واستعادة ثقة الجمهور الإسرائيلي وشركاء التطبيع العربي الذين تصوّروا قبل "طوفان الأقصى" أنه سيكون حاميًا لهم.
يوصف الجيش الإسرائيلي الآن تارةً بأنه جيش كذاب يخفي خسائره الحقيقة ويسوق انتصارات وهمية، وتارةً أخرى بأنه جيش فاشل يعجز عن تدمير شبكة أنفاق "حماس" ويقتل بشكل شبه يومي بنيران صديقة جنوده أو أسراه الذين أفلتوا من حرّاسهم.
كل هذا النصر في هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول المظفر وصمود المقاومة بعده، منح العالم العربي نصرًا هائلًا، لكنه أوّلي، وصدم إسرائيل وأمريكا بهزيمة ساحقة، لكنها أوّلية أيضًا. ما سوف يسجل كنصر نهائي للمعسكر العربي أم المعسكر الإسرائيلي هو الطرف الذي سيستطيع توجيه مسار هذا الحدث الضخم نحو تحقيق أهدافه الاستراتيجية.
إسرائيل فشلت في تحقيق أهدافها لكنها قد تكسبها استراتيجيًا بمساعدة واشنطن وحلفائها الفلسطينيين والعرب
بعبارة أوضح، فإنّ أكثر ما يخشاه المرء هو أن يكون ما نحن مقبلون عليه هو المثل العربي الحزين "ما أشبه الليلة بالبارحة"، فلقد منحت حرب أكتوبر/تشرين الأول ١٩٧٣ نصرًا أوّليًا هائلًا على تل أبيب وواشنطن، لكن خطايا التفاوض العربي جعلا هذا النصر مراوغًا بل انقلب هزيمة استراتيجية كاملة.
إسرائيل فشلت في تحقيق أهدافها من حرب غزّة، ولكنها قد تكسبها استراتيجيًا بمساعدة واشنطن وحلفائها الفلسطينيين والعرب الضعفاء. ووصف الحلفاء العرب لإسرائيل وأمريكا بالضعفاء ليس من عندي ولكن هو من قبل دينيس روس أحد كبار الصهاينة الأمريكيين.
يتعلّق الأمر هنا بمخططات "اليوم التالي" الأمريكية لما بعد الحرب في غزّة. تقوم هذه البدائل على تعددها على فرضيتين وعلى مرحلتين. أما الفرضيتان؛ فالأولى: هي أنّ "حماس" سيُقضى عليها سواء كمنظمة عسكرية وسياسية، وبالتالي ستختفي من ساحة غزّة. والثانية: أنّ الدول العربية، خاصة من وقّعت معاهدات سلام أو الاتفاقيات الإبراهيمية أو كانت على وشك أن تصل لتطبيع مثل السعودية، كلها تريد التخلّص من "حماس" و"الجهاد" باعتبارهما امتدادًا للنفوذ الإيراني مثلهم في ذلك مثل إسرائيل وأمريكا.
وإذا كانت الفرضية الأولى باتت محل شك كبير بعد صمود وبقاء ثلثي قوات "حماس" سليمة وقادرة على إلحاق الموت اليومي بالإسرائيليين، فإنّ الفرضية الثانية تتعرّض لاختبار عسير مماثل لاختبار أكتوبر/تشرين الأول ٧٣ الذي رسب فيه العرب رسوبًا فاجعًا وعجزوا عن قطف ثمار النصر ليقطفه الأمريكيون والإسرائيليون.
الفكرة الأساسية أمريكيًا هي أن تعود لليوم السابق للحرب وكأنه لم يكن، فتستكمل التطبيع السعودي الإسرائيلي وبناء التحالف الإقليمي التابع لها المكوّن من العرب والإسرائيليين في مواجهة إيران. تحالف تقوده هي استراتيجيًا من الخلف وتقوده عسكريًا قيادتها المركزية في الخليج، وقد وضعت فعلًا بذرته ومؤسساته في منتدى النقب. أما الفكرة إسرائيليًا فهي خلق وضع أمني يحوّل غزّة إلى الوضع القائم في الضفة وتكون قادرة فيه على العودة عسكريًا لغزّة في أي وقت.
يعتقد الأمريكيون أنّ حلفاء واشنطن العرب لن يستطيعوا في مرحلة ما بعد الحرب الخروج على السيناريو تمامًا كما لم يستطيعوا الخروج على سيناريو الحرب الذي رسمته واشنطن في ٨٠ يومًا ونيف، رغم كل العدد المروع من الشهداء الفلسطينيين، أطفالًا ونساءً، ورغم منع المياه والغذاء والدواء والوقود في شتاء قارس فرض فيه على ٢ مليون إنسان النزوح للعراء، ورغم الغضب الشعبي المخنوق من شعوبهم إزاء إسرائيل والولايات المتحدة.
ويريد الأمريكيون من حلفائهم العرب في المرحلة الأولى الانتقالية التورّط في قوة أمنية لحفظ الأمن في غزّة أو على الأقل تقوم بمباركة قيام قوة دولية أطلسية أو متنوعة للقيام بهذه المهمة. هذه القوة سيكون هدفها – ويا للتجبّر الغربي- إكمال المهمة التي فشلت إسرائيل في تحقيقها وهي استكمال تدمير شبكة أنفاق غزّة وتصفية من تبقى من المقاومة.
قد نكون مرة أخرى أمام نصر عربي مراوغ مع عدو بانت في ٧ أكتوبر هشاشته
في المرحلة الثانية الدائمة تسعى واشنطن لجعل السلطة الفلسطينية تحكم غزّة والضفة بعد إخضاعها للشروط الإسرائيلية وزيادة أعداد وتسليح قواتها لكي تواجه أي مقاومة تستهدف إسرائيل في فخ حرب أهلية فلسطينية مرسوم بدقة.
يراهن الأمريكيون على أداء عربي يقبل بالمضي في هذه المخططات، على معطيات عدة:
من بينها أنّ الدول القديمة التي لعبت أدوارًا قيادية هي الآن عاجزة عن الوقوف في وجه هذه المخططات سواء بسبب ظروف اقتصادية أو سياسية داخلية، وأنّ دولًا أحدث طامحة في مقعد القيادة ولكن تحت العباءة الأمريكية مستعدة للدخول بإمكانياتها المادية للعب دور بارز في ترتيبات غزّة بلا مقاومة. حتى تكون غزّة على غرار هونج كونج ودبي ومشروع ترامب - كوشنر.
إذا صدقت المعطيات الأمريكية عن ضعف إرادة العالم العربي فقد نكون رغم النصر المبين للمقاومة ورغم التعديل الكبير الذي أحدثته في موازين القوى، نكون مرة أخرى أمام نصر عربي مراوغ آخر وفصل جديد في قصته المحزنة مع عدو بانت في ٧ أكتوبر/تشرين الأول هشاشته وتآكله مجتمعًا وجيشًا وسياسة!!
(خاص "عروبة 22")