وجهات نظر

اليوم "الحالي"

كنتُ قد نشرتُ مقالًا في ٩ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بجريدة "الأهرام" المصرية، أتعجّب فيه من حديث "اليوم التالي"، أي تصورات ترتيب الأوضاع في غزّة بعد انتهاء المعركة الحالية باعتبار أنها ستُحسم لصالح إسرائيل وتحقيقها لأهدافها المعلنة، سواء كانت اجتثاث "حماس" أو "تحرير الأسرى والرهائن بالقوة".

اليوم

وكان مصدر العجب بطبيعة الحال أنّ حديث "اليوم التالي" يدور بينما المعركة على أشدها، ولا توجد أي مؤشرات على انكسار المقاومة لا قدّر الله، بل إنّ إسرائيل كانت وما زالت بكل قوتها الغاشمة ومساندة حلفائها بقيادة الولايات المتحدة تقف عاجزة عن تحقيق أي من أهدافها الاستراتيجية، الّلهم إلا إذا كان القتل والتدمير هدفًا.

مضى على نشر هذه المقالة حتى الآن قرابة شهرين، وعلى بدء العمليات قرابة ٣ شهور دون أن يطرأ تغيير على نموذج المواجهة، ومع ذلك يستمر تداعي مبادرات "اليوم التالي" رغم أنّ إمعان النظر فيها يؤكد مدى التعقيدات التي تحيط بها، خاصة مع استمرار نموذج المواجهة الحالي، فالرؤية الإسرائيلية المغرورة المتمثلة في الانفراد بالسيطرة على غزّة تصطدم بمعارضة الجميع وتعقيدات الوضع الكارثي الذي أوجدته إسرائيل في غزّة، وتنفيذ الرؤى التي تتصوّر دورًا للسلطة الفلسطينية شديد التعقيد فلسطينيًا بسبب ميراث الانقسام، وشديد الحساسية عربيًا لأسباب معروفة، وشديد الهزال أمريكيًا لأن الإدارة الأمريكية تريدها سلطة منزوعة الدسم تدير غزّة لحساب إسرائيل، وتنسحب الحساسية نفسها على أفكار الإدارة العربية لغزّة، وربما يكون الإشراف الأممي هو أنسب الصيغ لما يُسمى بـ"اليوم التالي"، لكن تعقيدات حقيقية تعوق إقراره في مجلس الأمن، ناهيك برفض إسرائيل القاطع له لأنه لا يمكن أن يُبنى إلا على دولة فلسطين المستقلة التي يفتخر نتنياهو بإحباط قيامها، ومع ذلك فإنّ المبادرات ما زالت تنهمر علينا مع أنّ الأَوْلى باهتمامنا هو "اليوم الحالي"، فما هو المقصود بذلك؟

وقف إطلاق النار لن يأتي بالضغط الدبلوماسي، وإنما باستمرار صمود المقاومة وتكبيدها خسائر موجعة لإسرائيل

شاركتُ في إحدى الندوات المهمة حول "طوفان الأقصى"، واستغرق النقاش ما يقرب من ٣ ساعات، وكنتُ آخر المتحدثين فقلتُ إنه في الوقت الذي استغرقه النقاش لا أعرف كم شهيدًا ارتقى، وكم مريضًا توفي بسبب غياب الدواء، وكم طفلًا مات من الجوع، وهكذا، فآلة القتل الإسرائيلية لا تهدأ ولا تريد أن تتوقف، ولذلك فإنّ الأولوية الأولى الآن هي الضغط بكل قوة من أجل وقف إطلاق النار، ومعروف أنّ هذا الهدف رغم بساطته وبديهيته وإنسانيته لا يلقى موافقة إسرائيلية ولا أمريكية، فنتنياهو يعلم أنّ وقف القتال قبل تحقيق نصر حاسم سوف يعني نهايته ومحاكمته ليس فقط بتهم الفساد، وإنما سيُضاف لها التقصير في التحسّب لما جرى، وكذلك في استراتيجية القتال وإدارته، والإدارة الأمريكية يغشاها دون شك كابوس انتهاء القتال دون هزيمة المقاومة، لأنّ التداعيات ستكون كارثية على مستقبل القيادة الأمريكية الكئيبة للعالم، ولهذه الأسباب فشل مجلس الأمن حتى الآن في التوصل لقرار بوقفٍ لإطلاق النار.

ويعني هذا أنّ التوصل لوقف إطلاق النار لن يأتي بالضغط الدبلوماسي، وإنما يمكن أن يأتي باستمرار صمود المقاومة وتكبيدها خسائر موجعة لإسرائيل، ولقد بدأنا بالفعل نتابع مؤشرات التململ في المجتمع الإسرائيلي، وكذلك في أوساط النخبة الرسمية وغير الرسمية، وبدأت نبرة الحديث عن تغيير سياسي أثناء الحرب، وعن ضرورة تغيير استراتيجية القتال، ومكاشفة الرأي العام بحقيقة الخسائر التي ترتفع، كذلك فإنّ صمود المقاومة أفضى إلى تغيير حقيقي في دوائر الرأي العام الغربي بما فيه الأمريكي، وصحيح أنه لم يؤد حتى الآن إلا إلى تغيير في لهجة الخطاب السياسي لم تترتب عليه نتائج ملموسة حتى الآن، إلا أنّ هذه مجرد بداية.

 التهديدات لا تجدي دون مؤشرات على القدرة على تنفيذها

غير أننا مع فاعلية المقاومة وصمودها وإنجازاتها يتعيّن علينا أن نمد لها يد العون، وألا نكتفي بالإشادة بها والتهليل لمنجزاتها، ومعروف أنّ الاعتدال يسود مواقف الدول العربية بصفة عامة، لكني لا أطلب منها سوى أقل القليل، وهو توجيه خطاب رسمي للرئاسة الأمريكية تحديدًا ولقادة الدول الأوربية المنحازة لإسرائيل، يحذر من أنّ استمرار الانحياز التام لإسرائيل، وتجاهل المجازر التي تحدث بحق الشعب الفلسطيني، والتدمير الذي يلحق بمنجزاته سوف يكون له تأثير خطير على مستقبل العلاقات العربية بهذه الدول، ولقد فعلها جمال عبد الناصر في خطابه في عيد العمّال في مايو١٩٧٠ عندما حذر الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون من عواقب وخيمة لاستمرار الانحياز الأمريكي لإسرائيل وتقدمت بعدها الإدارة الأمريكية بمبادرة لوقف القتال وإطلاق مفاوضات لتسوية الصراع بموجب القرار ٢٤٢، وإن تعقّد المسار بعدها عندما اكتشفت إسرائيل أنّ عبد الناصر قد استغل وقف إطلاق النار لاستكمال بناء جدار صواريخ الدفاع الجوي على الخط الأمامي للجبهة بما سمح للقوات المصرية لاحقًا بعبور القناة في حرب ١٩٧٣.

وبطبيعة الحال فإنّ التهديدات لا تجدي دون مؤشرات على القدرة على تنفيذها، ولقد تبنّت الدول العربية مؤخرًا بمناسبة الحرب في أوكرانيا مواقف مستقلة لا ترضي الولايات المتحدة، ورفضت كبريات الدول العربية المصدّرة للنفط الانصياع للرغبة الأمريكية بزيادة الإنتاج لتخفيض السعر ومن ثم تقليص العائدات الروسية من تصديره، فأَوْلى بنا أن نقدم على أعمال مماثلة لإيقاف المذابح والتدمير بحق غزّة وأهلها.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن