تقدير موقف

اغتيال الموسوي.. و"طوفان إيران" المفقود!

منذ الأيام الأولى لطوفان السابع من أكتوبر المجيد، والإحراج الوجودي يصيب أطراف الصراع في المنطقة والعالم، الولايات المتحدة والغرب وإسرائيل من جهة، ومحور المقاومة بقيادة إيران من جهة ثانية، يصيبهم بدوار عاصف لم يستفيقوا منه بعد.

اغتيال الموسوي.. و

وإذا كانت الولايات المتحدة ومعها بعض الغرب الأوروبي، غالوا في تقديم الدعم والانحياز ما بعد المطلق للعدوان الإسرائيلي المستمر منذ 85 يومًا، فإيران بوصفها زعيمة محور المقاومة طرف الصراع الآخر في هذه الحرب، تعاملت معها بطريقة التنصّل من تحمّل تبعات الانخراط فيها، تاركةً لأطراف المحور المدعوم منها "حرية القرار" في الانخراط "الإسنادي" في الحرب، وهذا ما سبق وعبّر عنه المرشد الايراني علي خامنئي فضلًا عن ساسة إيران وجنرالاتها، وخصوصًا وزير خارجيتها حسين عبداللهيان الذي لطالما حذّر خلال جولاته في المنطقة من اتساع ميدان الحرب وخروجها عن السيطرة، من دون أن تتسع تناسبيًا مع حجم "التوغّلات الإسرائيلية" في قطاع غزّة.

تحالف البحرية الأمريكي في البحر الأحمر بقي مرتكزًا على "عصب ثلاثي" يُذكّر بالعدوان الثلاثي على مصر

وفيما انخرط "حزب الله" منذ اليوم الثاني للطوفان في مواجهة إشغالية تصاعدية لجيش الإحتلال إنطلاقًا من جنوب لبنان، استهدفت فصائل عراقية موالية لإيران القواعد الأمريكية في سوريا والعراق. أمّا التحوّل الأبرز فكان في انخراط الحوثيين عبر مُسيّراتهم وصواريخهم التي تمّ اعتراض غالبيتها من عدة أطراف، وصولًا إلى تسديدهم ضربة قاسية تمثّلت باجراءات عسكرية ضد "السفن الاسرائيلية" ثمّ تلك المتجهة إلى إسرائيل. ما يعني عمليًا إقفال البحر الأحمر جزئيًا أمام الملاحة الدولية، بسبب تعليق شركات النقل البحري لكل شحناتها في البحر الأحمر وليس فقط المتجهة لاسرائيل، أي أنّ شركات النقل البحري اعتمدت معيار "إمّا السماح لكل الشحنات، أو امتناعها عن كل الشحنات"، ما دفع الولايات المتحدة لتشكيل تحالف بحري لحماية الملاحة تمنّعت غالبية دول البحر الأحمر، وخصوصًا السعودية ومصر، عن الانخراط فيه، فضلًا عن انسحاب إسبانيا وبعض الدول الأوروبية منه، ليبقى تحالف البحرية الأمريكي مرتكزًا على "عصب ثلاثي" يُذكّر بالعدوان الثلاثي على مصر المكوّن من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا.

استخدام ورقة باب المندب وإقفال الحوثيين جزئيًا للبحر الأحمر، ليس سابقة يمينة، فالسابقة سجلتها مصر خلال حرب أكتوبر 1973، حين أغلقت البحرية المصرية مضيق باب المندب أمام الملاحة الإسرائيلية لثلاثة أسابيع. ورغم تضرّر مصر من قرار الحوثي لأنّه يشلّ قناة السويس ضمنًا، فالأرجح أنّ القاهرة تتفهم الأبعاد الاستراتيجية المرتبطة بوقف العدوان على غزّة، لكنها في الوقت عينه تتوجّس من هذه الخطوة لأنها تعكس تعاظم نفوذ طهران عبر الحوثيين والذي لن يقتصر على البحر الأحمر بل سيشمل، وفق تهديدات إيران التضامنية مع غزّة، إقفال مضيق جبل طارق والبحر المتوسط أيضًا.

وفي هذه المشهدية، تتبدّى أوراق القوة التي استجمعتها إيران لتستخدمها في التوقيت المناسب لعقيدة "الصبر الاستراتيجي" التي تعتنقها، ويتبدّى حجم الغموض الإيراني تجاه آلية وكيفية الانخراط في مساندة غزّة المقتصرة حتى اللحظة على أذرعها في محور المقاومة من باب المندب إلى جنوبي لبنان. وهو الأمر الذي كاد يُخرج جنرالات إسرائيل عن طورهم باتجاه توسيع رقعة الحرب على جبهات أخرى ونجح الرئيس الأمريكي جو بايدن في كبح جماحها، ليس لأنّ بايدن لا يريد الحرب مع إيران، بل لأنّه وجنرالات إدارته فقدوا ثقتهم بقدرة إسرائيل في الدفاع عن نفسها تجاه غزّة، فكيف بخوضها حربًا ضد إيران، ومعها "حزب الله" في لبنان!

شكّل اغتيال الموسوي صفعة قوية لإيران، تُضاف إلى صفعات سابقة أشد إيلامًا وحساسية

كلنا يعلم أنّه ومنذ ما قبل عملية الطوفان بأكثر من عام غابت تحذيرات الأمريكيين والإسرائيليين المتكرّرة من "استحواذ إيران على السلاح النووي خلال أسبوعين"، لنجدهم اليوم يعاودون المعزوفة النووية التخادمية تزامنًا مع نجاح إسرائيل بعد إخفاقات عدة، في اغتيال جنرال الحرس الثوري رضي الموسوي المسؤول عن "وحدة إسناد محور المقاومة"، والذي يُعتبر الاغتيال الثاني من نوعه خارج إيران بعد رئيسه قاسم سليماني، وقد بدت إسرائيل عبر هذا الاغتيال وكأنّها نزلت عند قرار بايدن في تخفيض كثافة الدمار والنار، وجنحت باتجاه العمليات الجراحية الموضعية، لكنّها نفّذتها في سوريا ضد إيران، وليس في غزّة ضد قادة "القسّام" والمقاومة الفلسطينية.

بدون شك، شكّل اغتيال الموسوي صفعة قوية لإيران، تُضاف إلى صفعات سابقة أشد إيلامًا وحساسية، ومنها اغتيال الموساد "أب القنبلة النووية الايرانية" محسن فخري زاده فضلًا عن عشرات العمليات الفاضحة لشدّة غموضها ضد مواقع عسكرية وحسّاسة في إيران. لكن اللحظة السياسية التي اغتيل فيها الموسوي هي التي تُعطي للاغتيال بُعده الاستراتيجي الذي اكتسبت طهران خبرة كبيرة في تخصيبه بمعايير "الصبر الاستراتيجي".

توازيًا مع استنكارات "محور المقاومة" لاغتيال الموسوي، فقد سُجّل موقف نافر للمتحدث باسم الحرس الثوري العميد رمضان شريف أفصح فيه أنّ "طوفان الأقصى كان إحدى العمليات الانتقامية التي اتخذها محور المقاومة من الصهاينة لاستشهاد اللواء سليماني". ولعلّ المتفحص لكلام المتحدث الايراني يكتشف ببساطة حجم الإحراج الذي أصاب إيران التي قالت بكل ألسنتها المرجعية والسياسية والعسكرية إنها فوجئت بعملية "طوفان الأقصى"، وكلنا يذكر كيف أقدم خامنئي على تأنيب اسماعيل هنية وتصويره ككاتب تقارير، لأنهم لم يتشاوروا مع طهران مسبقًا بشأن "الطوفان".

لكنّ الأصدق تعبيرًا عن هذه المفاجأة في محور المقاومة، كان زعيم "حزب الله" الذي يجتهد أكثر من الإيرانيين لتحويل قاسم سليماني إلى أيقونة عجائبية، لكنه عندما وقع الطوفان أقرّ نصرالله بأنّ "الأخوة في كتائب القسام وحماس أخفوا طوفان الأقصى، وهذا حقهم.. وهذا انجاز فلسطيني صاف 100%"، كما اعتبر نصرالله أنّ "الردّ على دماء سليماني وأبو مهدي.. إخراج القوات الأميركية من منطقتنا".

إيران أنشأت ميليشيات تقاتل بالنيابة عنها وترسم عبرها حدود نفوذها المتعاظم من باب المندب إلى جنوبي لبنان

كلام المتحدث باسم "الحرس الثوري" عن أسباب الطوفان الثأرية لسليماني، هو تأكيد لكلام سابق نقله عن سليماني قائد مقر خاتم الأنبياء غلام رشيد وفيه أنّ "سليماني أخبره بتأسيسه 6 جيوش مهمتها الدفاع عن إيران، وهي إلى "حزب الله"، الحوثيون والحشد الشعبي العراقي والجيش السوري وحركتا حماس والجهاد". وفيما استنكرت "الجهاد" كلام غلام رشيد، اعتصمت "حركة حماس" يومها بالصمت، لكنها اليوم لم تستطع أن تبلع كلام المتحدث باسم "الحرس الثوري" الذي يظهرها بمظهر "المرتزقة" فسارعت إلى نفيه والاعتراض عليه".

كلام شريف "الثأري" لسليماني عبر الطوفان، يثبت نظرية تقول إنّ "إيران لن تدخل مطلق حرب بعد حربها مع العراق" ولهذا أنشأت ميليشيات تقاتل بالنيابة عنها وترسم عبرها حدود نفوذها المتعاظم من باب المندب إلى جنوبي لبنان. مع هذا فأهمية اغتيال الجنرال رضي الموسوي تأتي بعد تصريحات عبداللهيان وتحذيراته من مغبة "مهاجمة قوات بلاده في سوريا لأنها ستقابل بردّ مزلزل". طبعاً تحذيرات عبداللهيان، تُذكّر بمعزوفة اقتدار إيران على "تدمير اسرائيل خلال 7 دقائق ونصف" والتي سحبها قائد "الحرس الثوري" حسين سلامي من التداول منذ سنتين "بحجة أنّ الظروف غير مؤاتية لتدمير اسرائيل"، تمامًا كما سحب سلامي خلال تشييع رضي الموسوي كلام المتحدث باسمه بسبب التداعيات السلبية التي خلّفها بين الفلسطينيين خاصة، مؤكدًا أنّ "طوفان الأقصى عملية فلسطينية تامة وبعيدة عن انتقامنا لدماء الشهيد قاسم سليماني". لكنّ سلامي لم يفصح عمّا إذا باتت الظروف مؤاتية اليوم لتنفيذ "طوفان إيران" المفقود.. واستطرادًا تدمير إسرائيل! 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن