أولى هذه الحقائق وأبرزها أنّ القضية لم يدفنها التاريخ؛ بظلمة تراكماته، ولا الوهن العربي؛ بتداعياته، ولا طغيان العدو؛ بصلفه، وغروره. وأنّ المقاومة الفلسطينية لم تنتهِ، رغم خمسة وسبعين عامًا على النكبة، وسبعة عشر عامًا على الحصار، وأكثر من ثلاثة عقود من التخدير بشعارات دبلوماسية زائفة.
في الثاني والعشرين من سبتمبر/أيلول وقف بنيامين نتنياهو منتشيًا في قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة، مذكّرًا الحضور بـ"أرض الميعاد"، وملوحًا بخارطة ملوّنة بالدلالات، لما أسماه "الشرق الأوسط الجديد"، ومعتبرًا أنّ "القضية قد انتهت"، وأن لا مكان في شرقه الأوسط لما كان يُسمى بالصراع العربي الإسرائيلي، بعد أن "نجح في توقيع أربعة اتفاقات في أربعة أشهر مع أربع دول عربية"، ليخلص إلى التأكيد قائلًا: "نحن وحلفاؤنا - يقصد المطبّعين الجدد - ماضون في طريقنا، والفلسطينيون لم يعد لهم حق الاعتراض" / (I also believe that we must not give the Palestinians a veto over the process).
كشف عام 2023 أنّ الفلسطينيين يملكون وحدهم "الحق في تقرير مصيرهم" وأنّ الشعوب العربية لم تطوِ صفحة القضية
لم تمضِ أسابيع حتى كانت المقاومة فجر السابع من أكتوبر/تشرين الأول، قد سجّلت "الفيتو الذي لم يتوقعه أحد"، لتجعل، في ساعتين فقط خطة نتنياهو، أو بالأحرى خارطته "الصهيونية/ التوسّعية" الملوّنة شيئًا من الماضي.
بعكس ما قال، أو توهّم نتنياهو، كشف العام الذي انقضى أنّ الفلسطينيين، لا يملكون "الفيتو" وحسب، بل وأنهم، ككل الشعوب الحرة، يملكون وحدهم "الحق في تقرير مصيرهم"، مثلما تقضي كل الشرائع الدولية.
وبعكس ما قال، أو توهّم نتنياهو، فصراع الحقوق لم ينتهِ هكذا، ولو وقّع ألف اتفاقية ومعاهدة. والشعوب العربية، لم تطوِ صفحة القضية، بل على العكس هي تعرف عدوها جيدًا، وتؤمن بعد الله سبحانه بأن لا سلام بلا عدل.
رغم ابتسامة نتنياهو الواسعة يومها على منصة الجمعية العامة، ورغم بروباغندا العلاقات العامة التي تروّج كذبًا لإسرائيل المسالمة، لم ينتهِ العام قبل أن تكشف وقائعه، وصوره الدامية المباشرة، عن الوجه الحقيقي؛ الذي ربما كانت المساحيق الدعائية قد نجحت لسنوات في إخفائه عن هذا الساذج أو ذاك: ما يزيد عن 21 ألفًا من الشهداء - حتى كتابة هذه السطور - معظمهم من النساء والأطفال، وآلاف الأطنان من القذائف، وحصار خانق يصل بمليونين من البشر إلى حد الجوع والعطش، ودمار شامل يتجاوز، حسب التقارير الصحفية الغربية، ما تعرّضت له المدن الألمانية في الحرب العالمية الثانية.
والأهم من هذا كله تصريحات، ومقاطع فيديو كاشفة؛ وزير الدفاع الإسرائيلي يخرج ليقول: ذهبنا إلى غزّة لنحارب "حيوانات بشرية" لا حق لها في الحياة. ومسؤول آخر لا يتردد في القول: "ادفنوهم عراة أحياء"، ومقاطع فيديو تصوّر مستشفيات مدمّرة، وإعدامات ميدانية لشيوخ وعجزة، وأطفالًا خدج أخرجوا من حضاناتهم، وتركوا حتى تعفنت جثثهم.. إلى آخر ما نشاهد على الهواء مباشرة، مما يكشف عن حقيقة جيش الاحتلال وقيمه. ويذكّرنا بما ربما نسيناه من وقائع مماثلة جرى فيها دفن الأسرى المصريين "العزّل" أحياء بعد انتهاء حرب 1967.
لم يكشف عام 2023 عن وحشية الإسرائيليين فقط، ولا عن وجود أطفال فلسطينيين أسرى في السجون الإسرائيلية، بل وعن المخططات الإسرائيلية التوسّعية القديمة، إذ لم يعد سرًا أنّ هناك خططًا مفصّلة لتفريغ غزّة من سكانها، وتهجيرهم قسرًا إلى سيناء، وهو ما عرضنا بعضًا من تفاصيله في المقال الفائت. وهو الأمر الذي يتواكب مع ما يقوم به المستوطنون علنًا، وبحماية جيش الاحتلال من اعتداءات على فلسطينيي الضفة، بهدف إجبارهم على مغادرتها. (بالمناسبة، وحسب إحصاءات الأمم المتحدة وصل عدد المستوطنين/المستعمرين الإسرائيليين في أراضي الضفة الغربية المحتلة إلى 700 ألف، مما ينسف واقعيًا أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة).
كشف عن مواقف أمريكية فجة في انحيازها، وازدواجية معايير العديد من الحكومات الغربية، وانحياز واضح لتغطيات إعلامية
دوليًا، كان هذا أيضًا عام "الانكشاف"، فمجلس الأمن الدولي الذي لم ينشأ قبل 77 عامًا إلا لـ"حفظ الأمن والسلم الدوليين"؛ طبقًا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، فشل في إنقاذ مليونين من المدنيين المحاصرين، وإيقاف العدوان على القطاع المحاصر رغم أعداد الضحايا، والدمار، ورغم لجوء الأمين العام للمنظمة الدولية إلى المادة 99 من الميثاق. بل ووصل الأمر، أو بالأحرى العجرفة الإسرائيلية، إلى حد مطالبة المندوب الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة أمينها العام بترك منصبه، ووصفه – هكذا - بأنه فاسد أخلاقيًا، وإعلانه أنّ دولة الاحتلال ستلغي تأشيرات دخول مسؤولي المنظمة الدولية، في سابقة ربما لا تذكرها الأعراف الدبلوماسية.
العجرفة الإسرائيلية ساعد عليها أيضًا ما كشفت عنه وقائع وتصريحات العام المنقضي من مواقف أمريكية كانت هذه المرة فجة في انحيازها، ومن ازدواجية للمعايير في مواقف العديد من الحكومات الغربية، ومن انحياز واضح لتغطيات إعلامية، ومن علامات استفهام كبرى بشأن الحريات الأكاديمية في كبريات الجامعات الأمريكية. ومن نجاح البروباغندا الإسرائيلية في خلق حالة "مكارثية"، تفشى فيها الخوف، أو الحذر على الأقل، بين إعلاميين، وأكاديميين، ومسؤولين، ورجال أعمال، وأصحاب رأي.
وربما كان الأخطر هو ما حاولته، ونجحت فيه إلى حد كبير، الآلة الإعلامية الإسرائيلية من تشويه للحقائق و"تزييف للمصطلحات":
• فالحرب هي على "حماس"، رغم أنها ليست كذلك بل على الشعب الفلسطيني كلّه.
• و"حماس" هي "داعش"، رغم أنها ليست أكثر من فصيل سياسي، له جناح عسكري مسلّح لـ"مقاومة الاحتلال"، شأنه شأن كل حركات المقاومة في التاريخ.
• والمسألة برمتها بدأت في السابع من أكتوبر، رغم حقيقة أنّ الصراع عمره يتجاوز السبعين عامًا.
• وإدانة وحشية جيش الاحتلال الإسرائيلي، أو المطالبة بإيقاف العدوان، هو معاداة للسامية، رغم ما في القول بذلك من تجنٍ على الحقيقة، ومصادرة لحرية التعبير والرأي.
كشفت وقائعه وصوره عن المسافة بين الحكومات والجماهير
رغم كل ذلك، ورغم آلة إعلامية جبارة، ورغم ما كشف عنه العام المنقضي من وجه قبيح لهذا أو ذاك من السياسيين "الميكيافيليين"؛ هنا وهناك الذين لا يعنيهم غير تعبيد طريقهم إلى السلطة، أو ربما الجاهلين بطبيعة الصراع وحقائقه، إن أحسنا الظن، فقد كان أن كشفت وقائع العام المنقضي وصوره أيضًا عن المسافة ما بين الحكومات والجماهير في عصر لم يعد يحكم الإعلام فيه مؤسسات رسمية أو مملوكة لهذا "اللوبي" أو ذاك. فرغم المواقف الرسمية المعلنة للحكومات، لم تتوقف التظاهرات الضخمة المندّدة بالعدوان والاحتلال في كل العواصم الغربية.
كنتُ في باريس عشية العدوان، وأخبرني الكاتب الصديق الآن جريش، رئيس تحرير "لوموند دبلوماتيك" السابق، أنّ غرامة التظاهر دون ترخيص تصل إلى 135 يورو، ويومها خرج آلاف الفرنسيين إلى التظاهرة رغم رفض السلطات الترخيص بها.
يومها أيضًا، أخبرتني دبلوماسية مخضرمة بتفاصيل الجدل داخل الخارجية الفرنسية، الأمر الذي وصل فيما بعد إلى حد أن كتب سفراء سابقون مذكّرة داخلية يعيبون فيها على الرئيس الفرنسي تجاهله لموظفي الخارجية، وينبهونه إلى خطورة ما كان باديًا من تحيّز فرنسي "سيكون له عواقبه". وهو الأمر الذي تكرّر على الناحية الأخرى من الأطلنطي فيما كشفت عنه الصحافة الأمريكية من "احتجاج" غير مسبوق منذ أيام الحرب الفيتنامية لموظفين في الخارجية الأمريكية على نهج إدارة بايدن، وعلى ما وصفوه بأنه "سياسة متسامحة للغاية مع ما تفعله إسرائيل بالمدنيين في غزّة".
الأكثر إيلامًا هو ما بدا جليًا من انكشاف لحقيقة الوهن العربي
بالمناسبة، لم ينتهِ عام 2023 أيضًا دون أن يكشف لنا، أو بالأحرى يذكّرنا بأنّ هناك يهودًا ضد الصهيونية، وأنّ هناك أكاديميين وكتّابًا من اليهود يكتبون عن حقوق الفلسطينين بأفضل مما يكتب كثيرٌ من العرب. والقائمة هنا طويلة بالمناسبة.
يبقى أنّ الأكثر إيلامًا من الصور اليومية للقتل والتدمير في غزّة العربية - على مدار الساعة، وللشهر الثالث على التوالي- هو ما بدا جليًا من انكشاف لحقيقة الوهن العربي؛ استجابةً وتأثيرًا. لم ينجح العرب في أن يعقدوا قمّتهم، التي حاولوا تفادي حرج التئامها، إلا بعد أكثر من شهر من بداية حرب الإبادة الإسرائيلية لفلسطينيي غزّة. وعندما اجتمعوا لم يخرجوا علينا، رغم استثنائية الموقف، غير بما اعتدناه من عبارات إنشائية ليس من شأنها أن تُحدث أثرًا على الأرض.
فرغم فصاحة العبارة ووضوح المواقف والبنود الواحد والثلاثين، لم يخرج الأمر عن الإدانة (10 مرات)، والرفض (مرتان)، والاستنكار (مرة) والتأكيد (خمس مرات)، والمطالبة (خمس مرات). بالتعريف لم يكن هناك ثمة قرار، رغم تسمية البيان الطويل بذلك. فـالقرار تعريفًا لا يُطلق إلا على ما ستقوم به أو تنوي أنت تنفيذه، وليس مطالبة غيرك بذلك. فما بالك لو كان المُطالَب في بعض تلك القرارات هو العدو ذاته، القائم بالعدوان. راجعوا البيان من فضلكم. ثم كان أن ذهب وفد المجتمعين إلى هذه العاصمة أو تلك، ليعودوا بما يكشف عن الحال التي صار عليها العرب، من حيث الفعل، والتأثير.. والقيمة. وفي هذا وأسبابه حديث يطول.
يبقى الثابت الوحيد أنّ المقاومة الفلسطينية كتبت في السابع من أكتوبر السطر الأول في تاريخ جديد
وبعد،
فالليلة يُسدل الستار على هذا العام الدموي بامتياز، والمختلف بامتياز، والكاشف بامتياز، ليس فقط لعوراتنا، فلا جديد نعرفه تحت هذا العنوان، وإنما لعديد الحقائق التي منها ما كان قد نسيناه.
والليلة أيضًا يُرفع الستار عن عام جديد، ربما لا نعرف ما يخبّئه، ولكننا نعرف قطعًا أنه، في منطقتنا، لن يكون كسابقه. فرغم التضحيات الجسام، وهي يقينًا كذلك، يبقى الثابت الوحيد أنّ المقاومة الفلسطينية كتبت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول السطر الأول في تاريخ جديد.
﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾. ادعوا الله؛ القوي القدير أن يكون كذلك.
(خاص "عروبة 22")