بصمات

نحن.. والمدرسة العمومية

لا يبدو أنّ المدرسة العمومية (في عموم الوطن العربي، وليس على التحديد في مناطق منه) تعيش أفضل أيامها. الحق أنها تعيش أيامًا شديدة العسر، ولولا خشية الاتهام بالسوداوية وبالإغراق في التشاؤم لقلنا بل إنها تعيش أسوأ أيامها، منذ أول ظهورها. نقرر ذلك ونحن نقارن حالها اليوم مع ما كانت عليه قبل خمسة عقود ولربما أدنى من ذلك قليلًا.

نحن.. والمدرسة العمومية

لا نقصد بالقول التعليم العمومي، أي ذاك الذي يشمل أطوار التعليم جميعها (بما في ذلك المعاهد المتخصصة والجامعات) فتلك حال تشترك فيها الدول العربية، من جهات شتى، مع أغلب دول المعمورة. المقصود بالقول عندنا هو الصورة الرديئة التي نجد أنها صورة المدرسة العمومية في العالم العربي. إنها كذلك على شكل نزعم أنها تكاد تنفرد به بالنسبة لمثيلاتها في دول الجنوب، وذلك من أوجه محددة.

 تشييد صرح المدرسة العمومية وإقرار إجبارية التعليم كان يدخل في عداد بناء دولة الاستقلال وتشييد صرح السيادة

في أحاديث سابقة كانت لنا وقفات عند المدرسة العمومية ودلالتها على ولوج عالم الأزمنة الحديثة، وضربنا على ذلك أمثلة، لعلّ أقواها هو التناسب بين إشاعة التعليم العمومي وتدني نسب الأمية من جهة، ونشأة المجتمع الصناعي في الغرب الأوروبي من جهة أخرى. ولعل القارئ الكريم يتذكر أننا قد عرجنا على ما تحقق في اليابان من نقلة نوعية يرجع السبب فيها إلى إشاعة التعليم وصرف الجهود العظيمة في بناء المدرسة العمومية وليس إلى مجرد إرسال البعثات التعليمية إلى الغرب الأوروبي في الشطر الأخير من القرن التاسع عشر الميجي. ثم أننا نبهنا إلى السذاجة التي تكمن في التساؤل عن الأسباب التي تحققت بموجبها النقلة النوعية التي عرفها اليابان المعاصر في حين أنها لم تتحقق في بعض البدان العربية التي أرسلت بدورها، على غرار الميجي، بعثات تعليمية مماثلة. نبهنا إلى وجود مدرسة عمومية في اليابان، في الحقبة المشار اليها، وغياب تلك المدرسة في مجموع الوطن العربي.

نعم، بناء المدرسة العمومية في دول العالم العربي، من حيث النشأة، محايث لدخول الاستعمار الغربي لهذه الدول والاهتمام بإقامة صرح المدرسة العمومية، من قبل المستعمر، كان يستهدف خدمة السياسة الاستعمارية أولًا وأساسًا، بيد أنّ الشعوب العربية المستعمرة كان لها من ذلك البناء نصيب غير يسير من حيث الاستفادة النسبية منه. وغني عن البيان أنّ تشييد صرح المدرسة العمومية وإقرار إجبارية التعليم في مراحله الأولى، وهو ما كان غائبًا أيام الاستعمار، كان يدخل في عداد بناء دولة الاستقلال وتشييد صرح السيادة. وأيام كانت المشكلات التي يسع الدارس أن يحكم بأنها جابهت المدرسة العمومية في العالم العربي، إثر استعادة الاستقلال (التعميم، توفير الأطر "الكوادر" الضرورية، التمويل الكافي، والاستجابة لمتطلبات البيداغوجية العصرية....). مهما يكن من أمر فإنّ حال المدرسة العمومية في الوطن العربي في تلك المراحل قد كان، بالمقارنة مع ما هي عليه اليوم، أفضل بكثير.

إنقاذ المدرسة العمومية شرط للوجود والحفاظ على الهوية

تأسّست، في البداية، بعض مدارس "التعليم الخصوصي" وكانت ترجع إلى مبادرات فردية (ولسنا نتحدث عن مدارس البعثات الأجنبية في البلاد العربية وكذا المدارس التي يعود الأمر فيها إلى الكنائس الكاثوليكية) بيد أنها، سواء من جهة "وعيها بذاتها" أو من جهة نظر المواطن إليها، كانت تعتبر دون المدرسة العمومية لاعتبارات شتى مما لا نخوض فيه. أما اليوم فقد غدت الصورة معكوسة تمامّا إذ إنّ الجودة والجدية معًا قد أصبحتا تقترنان بمدرسة التعليم الخصوصي في حين أنّ المدرسة العمومية أصبحت ملاذًا لمن لم يكن يملك حيلة. لعلنا، في إشارة موحية، ندعو إلى التأمل في ظاهرة "الساعات الإضافية" و"المدرّس الخصوصي"، التي هي، بالفعل، مما تكاد الدول العربية تنفرد به مقارنةً مع دول الجنوب.

يستوجب حال التعليم في العالم العربي إرسال صرخة شعارها: أنقذوا المدرسة العمومية في وطننا، شرطًا للوجود والحفاظ على الهوية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن