ورغم أهمية موقف المهتمين في متابعة الموضوع والدور السوري فيه، فإنّ الموقف في خلاصته يعكس نظرة محدودة، لأنه يحصره في الحيّز السوري، ويراه وكأنه معزول عن محيط جغرافي سياسي إقليمي، كما يحسبه في جانب آخر موضوعًا مستقلًا، ومنفصلًا عن أصله كجزء من عالم المخدرات، ويزيد إلى ما سبق خصوصية رؤيته للمردود المالي الذي يوفره الكبتاغون للنظام، وهو مردود مهم في سياق موارد هائلة، يحصل عليها أمراء المخدرات في شرق المتوسط الذين يشكل نظام الأسد واحدًا مهمًا منهم، وهذا بعض ما يغيب في المقاربات الجارية حول الكبتاغون في سوريا.
يُشكّل ما سبق وحيثيات أخرى في موضوع الكبتاغون، ما يمكن تسميته بـ"مدار الكبتاغون" التي تختصر معطيات وعلاقات تفاعلية متعددة الأطراف والأبعاد والأهداف والنتائج في ظاهرة حاضرة، تتمدد في شرق المتوسط ومحيطه برعاية إيران ومشاركة نشطة من النظام الحاكم في دمشق ومجموعة المليشيات التابعة لإيران في المنطقة ولا سيما "حزب الله" اللبناني، وهو مثالها القابض الخفي على السلطة في لبنان الذي تقاربه في ذلك حالة مليشياتها في العراق.
وتدير الأطراف السابقة بقيادة طهران خريطة جغرافية وسياسية لـ"مدار الكبتاغون"، تبدأ من لبنان وسوريا على ساحل البحر، وتذهب شرقًا إلى العراق وإيران، شاملة بصورة ما أفغانستان، التي تملك إيران قوة تأثير كبيرة عليها، وإن كانت أقل بكثير من حال نفوذها وسيطرتها في العراق وسوريا ولبنان، كما أنّ اليمن ليس خارج تأثير ونفوذ إيران.
أطراف "مدار الكبتاغون" تنخرط في تحالف سياسي عسكري وأمني عميق يسعى إلى مد نفوذه بقيادة إيران على المنطقة
وتقوم حالة شبه متماثلة في علاقات هذه البلدان مع المخدرات. وإن كانت أفغانستان وإيران ولبنان ذات مكانة مهمة في إنتاج المخدرات في الزراعة والتصنيع، فإنها تستهلك بعض إنتاجها وتُصدّر بعضه، وتلعب في بعض الأحيان دورًا في عبور المخدرات في اتجاهات مختلفة، وهو دور طالما كانت سوريا، تلعبه في السابق، قبل أن يتصاعد دورها في زراعة وتصنيع واستهلاك وتجارة المخدرات في خلال سنوات الحرب، فيما صار العراق، ومعه إقليم كردستان، مستهلكًا كبيرًا وخط عبور إلى دول الخليج لمخدرات من كل الأنواع، تأتيه من إيران وأفغانستان في الشرق ومن سوريا في الغرب.
خصوصية دور سوريا في "مدار الكبتاغون" أنها، إضافة الى توسيع عملية توطين المخدرات، لعبت دورًا مركزيًا ومتصاعدًا في تصنيع الكبتاغون واستهلاكه وتصديره على مدار العقدين الماضيين، ومنذ السنوات الأولى لوصول بشار الأسد إلى السلطة قبل نحو عقدين ونصف العقد، تم اتخاذ سياسات وخطوات إجرائية لتطوير الصناعات الدوائية وخاصة لجهة استيراد المواد الأولية ومعدات التغليف والتعليب، وعلى هامشها قامت صناعة الحبوب المخدرة، التي يُشكّل الكبتاغون أبرزها، وكان أوائل المشتغلين فيها من بطانة النظام والنافذين فيه، قبل أن يدخل فيه أشخاص من أقرباء الرئيس بعد انطلاق الحرب في سوريا عام 2011، والتي شكلت فرصة ازدهار صناعة الكبتاغون نتيجة الفلتان الأمني ورغبة النظام في أموال سهلة، والرغبة في إحكام القبضة على ما تبقى من مجتمع مدمّر، وتجمّع أطراف مخدرات شرق المتوسط في سوريا، متشاركين في مراحل صناعة الكبتاغون وترويجه وتصديره وفق نسب يحتل السوريون أولها، يليهم "حزب الله" والإيرانيون متقدمون، والبقية على الدرجات الأقل، وهو ما أكدته تحقيقات وتقارير ميدانية مرفقة بأسماء ومواقع موثّقة، وإن قصرت في تسليط ضوء أكثر على مشاركة المليشيات العراقية، التي تؤكد مصادر عراقية، أنّ دورها حاضر في التجارة والترويج، مما جعل العراق أرخص سوق للمخدرات وحبوب الكبتاغون في المنطقة.
وإذا كان لمفهوم "مدار الكبتاغون" من معنى يُضاف إلى ما سبق، فإنّ بين ما يمكن إضافته، التوقف عند المصالح المشتركة لأطرافه، التي جعلتها تنخرط في تحالف سياسي عسكري وأمني عميق، يسعى إلى مد نفوذه وسيطرته بقيادة ايران على بلدان المنطقة عبر أدوات سياسية وعسكرية وأمنية تحكم قبضتها أساسًا على الدول، ويساعد "المدار" ومنتجه الرئيس من الكبتاغون في تعميق سيطرة أطراف الحلف على المجتمعات، التي يتسلّل إليها، ويحكم قبضته عليها، خاصة في ظل ما فيه من مزايا، بينها أنّ الكبتاغون ليس من نوع يماثل ما تفعله الأنواع الأخرى من المخدرات، إنما يشكل إضافة نوعية في صفاته من حيث أنه مادة رخيصة السعر، سهلة النقل، ويختلط مظهرها مع الأدوية المتداولة، ولا يثير الشبهات، مما يجعله سهل الانتشار، وسط ما تشجع عليه صفات شائعة عن آثاره على المستهلكين في أنه يساعد في المراحل الأولى، كما يقول الأطباء "على تحفيز الجهاز العصبي، ويزيد اليقظة والتركيز والأداء الجسماني، ويُحسّن المزاج، والشعور بالطاقة وعدم الحاجة إلى تناول الطعام أو النوم، ويقوّي الأداء الجنسي"، وكلها مقدّمات خادعة سرعان ما تتحوّل إلى تعابير كارثية عند المتعاطين بعد أن كانت بمثابة مغريات من أجل تجاوز الظروف الاستثنائية والصعبة، التي تواجه فئات حساسة في المجتمع وأبرزها الشباب، خصوصًا الطلاب منهم والمنخرطون في الصراعات المسلّحة.
ناتج الكبتاغون السوري قارب مبلغ 60 مليار دولار والأمر يتطلّب اتخاذ خطوات أكثر استجابة لاحتياجات الدول التي تناهض مساره
لقد دفعت الظروف التي كرّستها أحوال المنطقة وصراعاتها ونتائجها، وتدفع، إلى تزايد الطلب على الكبتاغون في شرق المتوسط وتركيا وبلدان الخليج وجوارها، وهذا ما تؤكده عمليات ضبط الحبوب المهرّبة إلى البلدان العربية والأوروبية، التي زاد عددها وكمياتها، وتضاعفت مرات قيمتها على مدار الأعوام الأخيرة. وطبقًا للتقديرات الأوروبية، فإنّ ناتج الكبتاغون السوري قارب مبلغ 60 مليار دولار، وهو رقم يُشجّع أن يكون في أول أهداف تصدير الكبتاغون بالنسبة لأطراف حلف المخدرات.
خلاصة القول في موضوع الكبتاغون، أنه يتجاوز فكرة كونه مجرد عقار مخدّر، يقوم بتصنيعه ويدير ترويجه نظام متهالك من أجل تمويل سياسات إجرامية. بل باعتباره جزءًا من جهود تحالف سياسي عسكري أمني قائم، يسعى لفرض نفسه وسياساته عبر تخريب المجتمعات المجاورة والأبعد منها، والسيطرة عليها إذا أمكن بوسائل غير حربية، والحصول على مردود مادي كبير جراء تهريب الكبتاغون. الأمر الذي يتطلّب تدقيقًا فيما يحيط بـ"الكبتاغون" من معطيات وتفاصيل، ثم صياغة سياسات، واتخاذ خطوات أكثر استجابة لاحتياجات الدول التي تناهض مسار الكبتاغون إليها ونتائجه، بل تناهض وجوده في محيطها أيضًا.
(خاص "عروبة 22")