خلال حقبة الستينات والسبعينات بل والثمانينات أيضاً باتت الانقلابات العسكرية أمراً معتاداً تماماً في بعض الدول العربية، ولم تحدث هذه الانقلابات بين العسكر وبين الحكومات المدنية، بل كانت بين العسكر بعضهم البعض، وقد سقطت الشعوب ضحية لبعض الانتهازيين من العسكريين المستغلين التواقين للسلطة، والذين غلّبوا طموحاتهم الشخصية على مصالح شعوبهم وأوطانهم، وانحصرت كل أطماعهم في تسلق المناصب القيادية، وخلال كل هذا العبث ضاعت أجيال بأكملها وسط مستنقعات الفقر والجهل والمرض.
بسقوط تلك الدول في مستنقع الانقلابات العسكرية تمزقت جيوشها الوطنية وغدت أوطانهم بأكملها حلبة للصراع بين قطاعات الجيش المتناحرة، والقطاع الفائز يقوم بالتخلص من قادة القطاع الآخر ورموزه من خلال إرسالهم لفرق الإعدام، ولا شك في أن تلك الحالة الفوضوية كانت تخدم مصالح أطراف دولية وإقليمية، ولذلك فقد أصبح مواطنو تلك الدول فريسة الفقر وانعدام الأمن.
لا تخلو أي دولة في العالم من وجود جيش لها يحميها من العدوان الخارجي، ولكن أن يتحول الجيش لحلبة صراع فهذا لا يعني إلا أن الجيش قد حاد عن أهدافه الأساسية التي بني من أجلها، ومن الملاحظ أن الكثير من قادة تلك الانقلابات يحرصون على إثبات وجود ظهير شعبي وجماهيري لهم، لإقناع الرأي العام العالمي والإقليمي أن حركتهم لم تكن إلا استجابة للجماهير الغفيرة، وهم يستمرون في نهجهم هذا حتى لو أدى ذلك إلى تفتيت الجيش نفسه، كما فعل الرئيس الليبي الأسبق معمر القذافي بتحويل الجيش إلى مليشيات يقودها بعض أبنائه من أجل الاستمرار في حكم البلاد.
لا شك أن ما يحدث حالياً في السودان هو نتاج معبر عن تلك الانقلابات، فالسودان بلد غني بالعديد من الموارد الطبيعية ولطالما كان مطمعاً للعديد من الأطراف، ولو عدنا لتاريخ هذا البلد منذ الستينات وحتى اليوم سنجد أنه شهد العديد من الصراعات المختلفة بين قوى الجيش والتي كان الشعب السوداني نفسه ضحيتها، ولعل انقلاب عمر البشير في العالم 1989 كان أحد نماذج تلك الانقلابات، وقد سبقه الكثير من الانقلابات الأخرى، كما شهد عصره صراعات عدة راح ضحيتها الكثير من قادة الجيش.
من الملاحظ أنه نتيجة للاضطرابات المستمرة في السودان ولخوف الانقلابيين من أن يتم الانقلاب عليهم سعى الكثير منهم لإحداث توازنات بين مختلف القوى حتى لا يتمكن أحدها من الإطاحة بهم وعزلهم عن الحكم، ونتيجة لذلك ضعف الجيش الوطني وتراجعت مصالح الشعب ومشاكله وأصبح الشغل الشاغل لأي رئيس هو حماية حكمه والحفاظ على نفوذه فحسب.
ما يحدث في السودان الآن لم يكن بعيداً عن دول كثيرة في المنطقة، فليبيا على سبيل المثال عاصرت أحداثاً مشابهة، فقد سعى القذافي لتفتيت جيشه خوفاً من أن ينقلب عليه جنرالاته يوماً ما، كما قام بوضع الدستور الذي يحكم حياة ملايين الليبيين في كتابه الأخضر، ومن المؤسف أن يؤدي سقوط تلك الأنظمة لسقوط الدولة نفسها في شرك الفوضى ومستنقع الإرهاب، فتلك الدول يبدو الوضع فيها مستقراً للوهلة الأولى، ولكن بمجرد أن تندلع شرارة امتعاض شعبي أو تتمكن قوة خارجية من اختراق صفوف الشعب، ينهار النظام بأكمله على رؤوس الشعب لضعفه وهشاشته، مفسحاً الطريق للفوضى والدمار والانقسامات الشعبية بل وللحروب الأهلية أيضاً.
يرى بعض المحللين السياسيين أن الحرب في السودان قد يطول أمدها لوقت لا يعلمه إلا الله وحده، فطرفا النزاع فيه يبدو كل منهما مصراً على موقفه حتى لحظة كتابة هذه السطور، ولكل منهم عدد من القوى التي تؤيده والتي قد تستفيد من إطالة أمد الصراع، والضحية الوحيدة لكل هذه الفوضى العارمة والموارد المنهوبة هو الشعب السوداني.
من المهم الآن أن تتوصل جميع الأطراف لصيغة تصالحية تنقذ الشعب السوداني من الفوضى التي تخلفها الحروب، وبلد مثل السودان يعاني في الأصل من اقتصاد ضعيف لن يتحمل كثيراً توقف أنشطته الاقتصادية على النحو الراهن، لذلك فمن الحكمة أن يعي أطراف الصراع خطورة انزلاقهم في حرب دموية قد تستمر لسنوات طويلة، كما نأمل أن يدركوا أن بعض القوى الخارجية يهمها أن تنفخ في نيران الأزمة، فمواقفهم تتغير بتغير مصالحهم لذلك لا يجب التعويل عليهم، فكل ما سيتبقى لهم هو وطنهم وأبناء شعبهم فحسب.
("عكاظ") السعودية