قرّرت جنوب أفريقيا رفع دعوى قضائية ضد إسرائيل يوم 29 ديسمبر/كانون الأول الماضي مكوّنة من 84 صفحة تتهمها فيها بارتكاب جرائم إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني، وشاهد العالم يوم الخميس الماضي ممثلي جنوب أفريقيا من رجال قانون "حقيقيين" وهم يترافعون ويعرضون التهم المدعومة بالأدلة ضد إسرائيل بمهنية واحترافية عالية.
قرار جنوب أفريقيا قيمته الكبرى في أنّ من قامت به دولة مدنية ديمقراطية تمتلك تاريخًا ملهمًا في النضال ضد الفصل العنصري، وأنه رغم مشاكلها الاقتصادية والسياسية والأمنية، إلا أنها انحازت لقيمها ومبادئها وتاريخها رغم أنها ليست طرفًا في هذا الصراع ولا يوجد لديها مواطنون يعيشون في غزّة أو تضرروا من هذه الحرب، ولم تختر أن تفعل ما يفعله البعض بترديد الجملة البائسة "إحنا مالنا".
وقد رصدت ووثّقت جنوب أفريقيا في دعواها ما اعتبرته أدلة على قيام إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية بالنظر لعدد الأطفال الكبير الذي قُتل، والتهجير ومنع وصول المساعدات، واعتبرت أنها "قامت بأفعال محددة بقصد تدمير الفلسطينيين كمجموعة قومية وعنصرية وإثنية"، وأنّ "إسرائيل فشلت في منع الإبادة الجماعية وحرّضت عليها"، مما يشكل انتهاكًا للاتفاقية المتعلقة بالإبادة الجماعية، ودعت في النهاية إلى "اتخاذ تدابير مؤقتة لحماية حقوق الفلسطينيين، وضمان امتثال إسرائيل لالتزاماتها بموجب هذه الاتفاقية".
عكست خطوة جنوب أفريقيا موقفًا أخلاقيًا وسياسيًا وشجاعة كبيرة لأنها ستكون مضطرة أن تقف في وجه الضغوط
وتضمّنت الدعوى تصريحات كثيرة أدلى بها كبار المسؤولين الإسرائيليين، بمن فيهم رئيس الوزراء نتنياهو، واعتبرتها أظهرت "نية إبادة"، فمثلًا حين قارن الفلسطينيين بشعب العمالقة (العماليق) في الكتاب المقدس اليهودي، حيث أمر الله الإسرائيليين بتدميرهم، وتقول الآية الكتابية "الآن اذهب واضرب العماليق.. أقتل الرجل والمرأة، والرضّع".
لقد أظهر المحامون ورجال القانون "الجنوب أفريقيين" مهارة ومهنية فائقة أثناء مرافعتهم وشرحوا في دعواهم وبالأدلة، الوحشية التي تُرتكب في غزّة، وقدّموا طلبًا عاجلًا إلى المحكمة، أن تعلن سريعًا أنّ "إسرائيل خرقت التزاماتها بموجب القانون الدولي منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي".
وعكست هذه الخطوة موقفًا أخلاقيًا وسياسيًا صحيحًا، وأيضًا شجاعة كبيرة لأنها ستكون مضطرة أن تقف في وجه الضغوط التي تمارسها الدولة العبرية وحلفائها على الدول أو الهيئات التي تعمل على إصدار إدانة دولية ضد ممارسات إسرائيل أو تحشد الرأي العام العالمي بالفعل وليس بالشعارات ضدها، بما يعني أنها ستكون مضطرة أن تقف في وجه الحرب التي ستطلقها المؤسسات المالية والإعلامية والسياسية الكبرى التي تسطير عليها جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل.
أهمية ما قامت به جنوب أفريقيا يرجع إلى أنها ليست دولة يُصنّفها الغرب بـ"المارقة" كما يفعل مع إيران، وليست دولة متهمة بدعم الإرهاب أو إرهابية كما يفعل مع فصائل المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها "حماس"، إنما هي دولة مندمجة في النظام العالمي وناضلت من أجل تغيير جوانبه السلبية وأهمها التاريخ الاستعماري، وإنّها بكفاحها ضد نظام الفصل العنصري الذي دعمه الغرب وبريطانيا لفترة طويلة نجحت في إسقاطه عبر نضال شعبي ومسلّح دفع الغرب نفسه إلى مراجعة موقفه والتسليم بإرادة الشعب الجنوب الأفريقي.
لقد امتلكت جنوب أفريقيا واحدة من التجارب الملهمة في تاريخ البشرية وواجهت نظام الفصل العنصري الشبيه بقوة بالنظام الإسرائيلي، بنضال سياسي ومدني على يد حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، لكن بعد القمع والحظر الذي تعرّض له الحزب وإطلاق النار على المتظاهرين السلميين الرافضين لسياسة الفصل العنصري أسّس نلسون مانديلا في 1961 جناحًا عسكريًا لحركته السياسية سماه "رأس الحربة" وأصبح رئيسًا له واعتُقل وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة وأطلق من محبسه جملته الشهيرة "اتحدوا! وجهّزوا! وحاربوا! إذ ما بين سندان التحرّك الشعبي، ومطرقة المقاومة المسلّحة، سنسحق الفصل العنصري" وهو ما حدث.
تحرّرت جنوب أفريقيا بفضل نضال شعبي ومسلّح وحملة دولية وهي رسالة مهمة فيما يخص نضال الشعب الفلسطيني
خرج مانديلا في عام 1990 بعد 27 عامًا قضاها في الحبس بكل ما يُمثّله ذلك من رمزية نضالية عالمية وأسقط نظام الفصل العنصري بالتسامح والمصالحة الوطنية مع الأقلية البيضاء وأصبح أول رئيس من أصول أفريقية يحكم جنوب أفريقيا وبقي لمدة واحدة من 1994 إلى 1999.
لقد تحرّرت جنوب أفريقيا بفضل نضال داخلي شعبي ومسلّح، وأيضًا حملة دولية ضغطت من أجل إطلاق سراح الرجل وتحرير البلاد، وهي رسالة مهمة فيما يخص نضال الشعب الفلسطيني الذي يحتاج لاستمرار نضاله الداخلي من أجل التحرّر من الاستعمار العنصري الاستيطاني، وأيضًا وبالقدر نفسه نضال خارجي يدعم ما يجري في الداخل ويعمل على ردع آلة الحرب الإسرائيلية مثلما فعلت جنوب أفريقيا برفع هذه القضية أمام محكمة العدل الدولية.
ورغم أنّ قرار المحكمة سيكون استشاريًا، إلا إنه بالتأكيد سيمثّل ورقة ضغط جديدة على دولة الاحتلال لعلّه يردعها من أجل وقف عدوانها، خاصة أنه يمثل "خطوة تاريخية" لأنها ستفتح الباب أمام قيام دول ومؤسسات أخرى بحملات سياسية وقانونية شبيهه وقادرة على التأثير في المجتمع الدولي بلغته بعيدًا عن الشعارات والخطابات العاطفية.
(خاص "عروبة 22")