مسيرة التنمية البشرية تعكس مسيرة من النظريات التنموية، ومن ضمنها مسيرة التنمية الاقتصادية، لذلك تعد التنمية البشرية جزءًا من كُل، فهي لم تنشأ بمعزل عن المجالات الأخرى في التنمية، وإنما نشأت مع تطور الأصل، وكما قال ابن خلدون في مقدمته إن (الإنسان غاية جميع ما في الطبيعة وكل ما في الطبيعة مسخر له)، وبذلك تكون طريقة التحليل للتنمية تختلف عن المناهج التقليدية في تحليل النمو الاقتصادي، فنمو الناتج القومي الإجمالي ينظر إليه على أنه ضروري ولكنه غير كافٍ لتحقيق التقدم البشري بصورة متسقة مع سرعة نمو الناتج القومي الإجمالي.
وهذا ما يجعل مجالات التنمية تنظر للبشر على أنهم أكثر عوامل الإنتاج نشاطًا، وهم ليسوا سلعًا إنتاجية تستخدم لإنتاج سلع أخرى، فهم الهدف الأسمى للعملية الإنتاجية والمنتفعون بها، وتنظر مناهج الرفاهية البشرية إلى أن الناس منتفعون من العملية التنموية أكثر من كونهم مشاركين فيها، أي إن سياسات التوزيع المؤثرة على الهياكل التنموية تؤثر على إشباع الحاجات الأساسية من غذاء وماء ورعاية صحية وغيرها من الخدمات الضرورية، وإيعاز هذا كله إلى أهمية تحقيق الاكتفاء الذاتي في المجالات التنموية المتنوعة.
ومن خلال هذا الطرح يمكن الوصول إلى قناعة بأن النمو الاقتصادي لا يمكن إدامته دون التنمية البشرية، كما أن هذه التنمية لا يمكن إدامتها دون تحقيق النمو الاقتصادي، وأن هذا الترابط يأتي وثيقًا وضروريًا -على المدى الطويل أكثر منه في المدى القصير- لأن يتمتعَ كلاهُما باستقلالية نسبية، أو أن العلاقة بينهما في المدى الطويل -تبادلية بصورة تكاملية- لأنه لا يستديم أو يستقيم أحدهُما من دون الآخر، بمعنى آخر يمكن القول أن خلق الثروة هو وظيفة النمو الاقتصادي، وهي مسألة كمية صرفة، وأن عملية توزيعها تعد مسؤولية السياسات والخطط الاستراتيجية، وهي مسألة نوعية صرف، ومن خلال هذين البعدين تقع حالات العلاقة ومضامينها المُختلفة ما بين النمو الاقتصادي والتنمية البشرية.
في الختام، سنجد أن الجدلية بين القدرات والخيارات تعيدنا إلى الموقف من القضية التنموية بوجه عام، لأن معظم الانتقادات التي وجهت إلى خطط التنمية أكدتْ على عدم ملاءمة الأهداف بقدر ما أظهر قصور أجهزة التنفيذ عن أداء الواجبات التي حددتها الخطط، وإذا صح التحليل الاقتصادي، فإن إدراج البعد البشري بصورة مترابطة يجب ألا يكون مجرد رداء تتجمل به التنمية الاقتصادية، بل هو إعادة نظر شاملة تعم نظريات التنمية وممارستها بصورة تحقق التنمية في شكلها المتناغم استراتيجيًا.
("الراية") القطرية