وأتبع هذا الفريق الجملة/الفكرة بنتيجتين؛ الأولى، أنه عملٌ أكبر منها ولا يحق لها - وهي ليست دولة - أن تندب نفسها لإجراء خطير مثل هذا. والثانية، أنه من حق إسرائيل والولايات المتحدة أن يقوما بمنع أن يحدث ذلك، وإلا انتشرت الفوضى وضاعت هيبة الدول أمام المنظمات غير الحكومية. وكانت النتيجة لهذه النظرة ما نراه من هذا التواطؤ العربي غير المعلن على تأديب المقاومة وتصفيتها ونزع سلاحها للأبد، عقابًا لها على تجرؤها على أسياد اللعبة والقواعد التي وضعوها في واشنطن وتل أبيب.
المشكلة الكبرى أنّ كل هذه الفكرة برمتها مبنية على كذبة ومغالطة تاريخية كبرى؛ فالحقيقة تقول إنّ تغيير قواعد اللعبة بدأ قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول بزمن طويل، وأنّ من قام بتغيير هذه القواعد هم الأمريكيون والإسرائيليون أنفسهم، وأنّ "طوفان الأقصى" في أحسن الأحوال ليس إلا رد الفعل المضاد الأنجح ضمن ردود أفعال سابقة لمواجهة التغيير الذي قادته واشنطن منذ عهد ترامب والذي سعى بايدن بعده إلى تعميق وتوسيع نطاقه.
أمريكا ترامب.. من إدارة القضية إلى حسمها لصالح اسرائيل
في سبعينات القرن الماضي، خرجت مصر الدولة الأكبر من الصراع العربي-الإسرائيلي، ولكنها عند خروجها لم تغلق الباب قبل أن تدخل أمريكا محتكرًا وحيدًا لتسوية هذا الصراع تحت جناح مقولة السادات بأنّ ٩٩٪ من أوراق اللعبة في يدها. منذ ذلك الوقت انتهجت الإدارات المتعاقبة الخارجة من قلب مؤسسة الأمن القومي الأمريكية نهجًا ماكرًا يدّعي أنه يسعى لتسوية عادلة، ويبقي في هذه المناورة على عدم اعترافه القانوني بالاستيطان الإسرائيلي ولا بحدود إسرائيل بعد حرب ٦٧. ولكن في الوقت نفسه يقوم بدعم عملية قضم متدرّج وخلق حقائق على الأرض تكون نتيجتها هي تمكين إسرائيل من اقتطاع ما تريد من الأراضي بالقدر الذي يحقق لها ما تسميه خطة "إيجال آلون" الشهيرة بالحدود الآمنة لإسرائيل.
في هذا السياق، ومنذ بداية حكم ريجان وحتى نهاية عهد أوباما اكتفت واشنطن بوضع قواعد لعبة تقوم على منهج إدارة الصراع وليس حله عبر استهلاك الوقت وإدخال العرب خاصة بعد "أوسلو" في متاهات المبادرات الغامضة والمفاوضات الماراثونية بما في ذلك تجنّب رؤساء أمريكيين بين ١٩٨١ - ٢٠١٧ أن يتقدّموا نحو حل حاسم للنزاع، وقد أفهمتهم المؤسسة أنّ حلاً فجائيًا باترًا من هذا النوع سيغضب الشارع العربي ويضع حلفاءها في وضع قلق قد يهز عروشهم الملكية أو الرئاسية وبالتالي يضعف سيطرة سيد البيت الأبيض المطلقة على شؤون المنطقة.
لا يمكن النظر إلى معركة "سيف القدس" ٢٠٢١ خارج السياق المقاوم لتغيير ترامب الفج لقواعد اللعبة القديمة
تغيّر كل هذا عندما وصل لسدة الرئاسة ٢٠١٧ دونالد ترامب الشعبوي القادم من خارج المؤسسة، بل والمتمرّد على ما يسميه نخبة الحكم في واشنطن، متسلحًا بسذاجة رجل أعمال يدخل دون معرفة إلى تعقيدات السياسة، مغمورًا عقائديًا بانتماء شخصي وعائلي للمسيحية الصهيونية.
شمّر ترامب قليل الخبرة عن ذراعيه لما اعتبر أنه سيعيد توجيه حركة التاريخ في أرض الأنبياء نحو تحقيق النبوءة الإنجيليّة "دعم إسرائيل هو الطريق الوحيد لعودة المسيح".
زلزل ترامب القواعد الأمريكية العلنية الظاهرة في الصراع، ولم يكتفِ فقط بمجرد تغييرها متقدمًا بخطته التي عُرفت بصفقة القرن، والتي تضمّنت الاعتراف بالقدس عاصمة موحّدة لإسرائيل، وأنهى ما يُشبه العرف المستقر لمن سبقوه في الامتناع عن تنفيذ قرار للكونجرس بنقل السفارة إلى القدس.
اعترف ترامب بالاستيطان غير المشروع، واعتبر نفسه غير ملزم بـ"حل الدولتين"، وقام بضم ٤ دول عربية للتطبيع مع إسرائيل في الاتفاقيات الإبراهيمية، وتهيّأ لشطب القضية الفلسطينية من التاريخ، أو هكذا توهّم. منح ذلك الكشف المبين لـ"خيانة" الوسيط الأمريكي "النزيه" تطوّرين معاكسين، الأول؛ هو توفير دعم مطلق لليمين الإسرائيلي المتطرّف ونتنياهو الذي وصل به الجنون يومًا حد إعلان تاريخ محدّد لضم الضفة الغربية المحتلة رسميًا.
أما التطور الثاني؛ فهو نشوء سياق عربي وإقليمي شعبي وغير حكومي ذي طابع ثوري معادي لهذا التجبّر الأمريكي وما صاحبه من هزال ردود الفعل العربي الرسمي. هذا السياق خلق بيئة مؤاتية لتطوير تحالف إقليمي معادي للاحتلال ولصفقة القرن. في هذا التحالف حسمت إيران تمامًا خيارًا مفاده أنّ مصلحتها الذاتية في حماية نفسها من عدوان إسرائيلي إنما يتم بتوفير الأسلحة وخبرات تصنيعها لقوى المقاومة المحيطة بإسرائيل وتحويل هذه القوى لـ"حلقة النار المحيطة بإسرائيل"، لا يمكن النظر إلى معركة "سيف القدس" ٢٠٢١ ولا لصعود هجمات "الجهاد الإسلامي" وشعبيته داخل الضفة خارج هذا السياق المقاوم لتغيير ترامب الفج لقواعد اللعبة القديمة.
أمريكا بايدن.. من حسم القضية إلى تصفيتها
عندما جاء بايدن، ابن المؤسسة البار وأحد أبرز وجوه نخبة واشنطن منذ ٧٣، سناتورًا ثم رئيسًا، توقع بعض العرب أن يعود لقواعد اللعبة القديمة. لكن بايدن وإن كان قد عاد ظاهريًا للحديث المخادع عن "حل الدولتين"، إلا أنه أبقى على السفارة الأمريكية في القدس وسمح بتوحّش النشاط الاستيطاني.
لكن التطور الأخطر حملته دواعي الحرب الأوكرانية، فقد شعرت المؤسسة الحاكمة الأمريكية بالخطر الشديد من انفلات السعودية من الفلك الأمريكي بسبب تصريحات بايدن الانتخابية بمعاقبة السعودية على اغتيال خاشقجي وجعلها دولة منبوذة وما قادت إليه هذه التصريحات إلى ما يشبه تمرّدًا سعوديًا غير تقليدي على واشنطن.
الخطر أصبح داهمًا في شهر مارس الماضي مع اختيار السعوديين بكين غريم واشنطن العالمي لكي تكون الوسيط في اتفاق لتطبيع العلاقات مع إيران التي فعلت واشنطن كل شيء لعزلها إقليميًا.
هنا حدث ما يمكن وصفه بالتحوّل نحو ١٨٠ درجة في سياسة بايدن تجاه الرياض وتجاه تقديم دعم حاسم لقيادة وسلطة ولي العهد كزعيم للسعودية - ربما مع صغر سنه - للخمسين سنة القادمة ودعم طموح الرياض لتكون اللاعب العربي الأول في الإقليم.
الثمن الباهظ الذي طلبه بايدن لاتفاقية التطبيع.. كان تغييرًا في قواعد اللعبة الأمريكية وتصفية للقضية الفلسطينية
لكن المشكلة أنه مع التحوّل في استراتيجية بايدن بما في ذلك الاستجابة لكل الطلبات الأمنية السعودية، كان الرئيس الأمريكي يطلب ثمنًا كبيرًا هو تطبيع إقليمي للعلاقات بين السعودية وإسرائيل ومعها ست دول عربية وإسلامية كهدية مجانية. ويكون هذا بمثابة الإنجاز العملي لاستراتيجية واشنطن في بناء تحالف أمني عسكري (عربي – إسرائيلي) ضد إيران خاصة أنها وبهدوء كانت قد قامت بتأسيس البنية التحتية ومؤسسات هذا التحالف فيما عُرف بمنتدى شرم الشيخ، وبعد أن أدمجت إسرائيل وحلفاءها العرب في القيادة المركزية الأمريكية في مقرها بالبحرين.
هذا الثمن الباهظ الذي طلبه بايدن لاتفاقية تطبيع إسرائيل مع السعودية، كان باعتراف أطراف المفاوضات تكرارًا للاتفاقيات السابقة بين إسرائيل ودول عربية، هو بهدف تحقيق مصالح البلدين الثنائية، ولم يزعم أحد وقتها أنّ الاتفاق المستهدف يشترط قيام دولة فلسطينية، فقط التزام أمريكي بالسعي لإجراءات ما لتحسين الحياة اليومية للفلسطينيين!! وإنه إذا كان الفلسطينيون راغبين في التسوية ليتفاوضوا هم بأنفسهم مع الإسرائيليين!!
كان ذلك تغييرًا في قواعد اللعبة الأمريكية، وكان تصفية للقضية الفلسطينية، خاصة مع مؤشرات على أنّ السلطة الفلسطينية قد لا تستطيع مع وزن السعودية الاعتراض على الصفقة.
هل كانت هذه فقط عناصر التغيير في قواعد اللعبة؟.. لا، هنا بالتوازي جاء الدور الإسرائيلي للحكومة المتطرّفة حيث زادت وتيرة الاستيطان بجنون، وإذا تم حساب المستوطنات والبؤر الاستيطانية والحواجز والطرق الالتفافية، فإنّ إسرائيل تكون قد استولت على ما يقرب من ٧٥٪ من الضفة وتم تشديد الحصار على غزّة والتنكيل بالأسيرات الفلسطينيات، لكن نقطة التفجير الكبرى المحرّكة للمشاعر الدينية كانت في انتهاك بن غفير المتكرر لحرمة المسجد الأقصى وإعلان موعد لضمّه وبناء الهيكل الثالث المزعوم.
جسّد نتنياهو هذه التصفية التامة للقضية الفلسطينية في خطابه أمام الأمم المتحدة قبل أيام قليلة من ٧ أكتوبر/تشرين الأول، عرض فيها خريطة لإسرائيل من النهر إلى البحر ولا توجد فيها دولة فلسطينية، فقط إسرائيل زعيمة للإقليم ومندمجة في المنطقة.
الآن فقط بعد "طوفان الأقصى" يزعم الأمريكيون أنهم ملتزمون بـ"حل الدولتين"، والآن تقول الرياض إنها لن تطبّع مع إسرائيل قبل الاتفاق على طريق موثوق يقود لدولة فلسطينية. ثم بعد كل ذلك يلومون المقاومة ويزعمون أنها هي التي غيّرت بتهوّر ولا مسؤولية قواعد اللعبة الإقليمية!!.
(خاص "عروبة 22")