يبدو أنّ شدّة الضربة وقساوتها على البيت الأبيض والبنتاغون أحدثت نوعًا من الصدمة والارتباك في الأردن الذي سبق وطالب واشنطن بتزويده بمنظومات "باتريوت"، وبدا اليوم وكأنّه أصيب بإحراج شديد نتيجة كشف الأمريكيين لموقع القاعدة المخفي عن التداول ضمن الجغرافيا الاردنية، ما عزّز انطباعاً مفاده أنّ استهداف "الفصائل" للقاعدة يستبطن رسالة ساخنة للأردن نتيجة تدخله بالقصف الجوي جنوبي سوريا عدّة مرات ضد "مهرّبي المخدرات" وسبق وأشارت تقارير أنهم يهرّبون "أشياء أخرى" الى الضفة الغربية من جهة، وأنّه من هذه القاعدة استهدفت مسّيرات أمريكية بعض مواقع الفصائل في الحدود السورية العراقية المتداخلة من جهة أخرى.
تأتي هذه الضربة بعد سلسلة من الضربات غير المميتة التي وجهتها "المقاومة الإسلامية في العراق" للقواعد الأمريكية بخلاف الضربات المُميتة التي وجّهها الأمريكيون إلى الفصائل وخصوصًا في منطقة "جرف الصخر" المغلقة بشكل كامل بعد تهجير أهلها منها لصالح "كتائب حزب الله" والحرس الثوري.
وتمتاز "جرف الصخر" بأهمية استراتيجية تاريخية، ففيها بنى الرئيس العراقي الراحل صدّام حسين مصانع الصواريخ بعيدة المدى ومخازنها الحصينة والتي لطالما خضعت للتفتيش من قبل اللجان الدولية برئاسة هانز بليكس للتأكد من عدم امتلاك العراق (قبيل غزوه) أسلحة دمار شامل.
الولايات المتحدة تستهدف فصائل "محور المقاومة" باليد اليمنى وترفع لافتة منع توسيع الحرب باليد اليسرى
كما أنّ الضربة أتت بعد عملية اغتيال نفذتها القوات الأمريكية في بغداد ضد "أبو تقوى السعيدي" القيادي في "حركة النجباء" و"الحشد الشعبي"، وأيضًا بعد استهداف القوات الأمريكية لمواقع تابعة للفصائل في منطقة القائم الحدودية مع سوريا.
لكن الضربة الأكثر إيلامًا وأصابت إيران في جرح بليغ في الوجه، كانت من خلال قصف مقر رئيس استخبارات الحرس الثوري "الحاج صادق" في منطقة المزّة بمدينة دمشق ومقتله ونائبه وآخرين من ضباط الحرس الثوري، ولشدّة الضربة التي تلقتها إيران كان وعيد وتهديد الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي قويًا خلال تشييعهم في طهران، سيّما وأنّ مقتلهم تمّ بعد مقتل جنرال الحرس الثوري ورفيق قاسم سليماني، رضي الموسوي. وقد أشاعت عمليات الاغتيال التي استهدفت جنرالات إيران مناخًا يشي بوجود اختراقات وثغرات أمنية واسعة سمحت لإسرائيل بتنفيذ عملياتها داخل النطاق الإداري لمدينة دمشق.
مناخ الاختراق والثغرات الأمنية ليس محصورًا بالبيئات الأمنية الإيرانية في سوريا، فهو ممتد إلى لبنان وضاحية بيروت الجنوبية فضلًا عن الجنوب حيث تم اغتيال بعض كوادر "حزب الله"، إضافة للاغتيال النوعي الذي خرقت فيه إسرائيل قواعد الاشتباك مع "حزب الله" وأودى بالقيادي في حركة "حماس" الشيخ صالح العاروري في مكتبه بالضاحية الجنوبية حيث كشفت بعض الأوساط حيازته لنحو 3 هواتف نقالة لحظة اغتياله.
هذه الاغتيالات المتناسلة والمتواصلة ضد "محور المقاومة" من لبنان إلى سوريا والعراق والضربات الأمريكية البريطانية التي تستهدف "أنصار الله الحوثيين" في اليمن، بيّنت أنّ الولايات المتحدة تستهدف فصائل "محور المقاومة" باليد اليمنى، وترفع لافتة منع التصعيد وتوسيع ميدان الحرب باليد اليسرى. ورغم عدم تناسب عمليات الإسناد لغزّة والمقاومة الفلسطينية التي تمارسها فصائل "محور المقاومة" مع حجم العدوان على غزّة، فإنّ ردود الولايات المتحدة وبريطانيا بدورها غير متناسبة مع عمليات الإشغال التي تؤديها فصائل الإسناد لغزّة.
لكن، ما بعد مقتلة الجنود الأمريكيين ليس كما قبله، فالإدارة الأمريكية التي سبق وغادرت المنطقة لمواجهة الصين، نجدها عادت ببوارجها وغوّاصاتها لحماية إسرائيل والدفاع عنها، وخصوصًا ردع إيران وأذرعها عن توسيع المعركة التي لم تخرج عن انضباطية قواعد الاشتباك إلّا بعد هذه المقتلة للجنود الأمريكيين في قاعدة "البرج 22".
إذا ما قصفت الولايات المتحدة العمق الايراني فيرجح أن تعمد طهران إلى إغلاق مضيق هرمز لتضييق حركة الملاحة الدولية
أمريكيًا، الولايات المتحدة لا تملك إلا الردّ على مقتلة جنودها، لكن يرجح أنّ بنك الأهداف الأمريكي سيستهدف الفصائل الموالية لإيران إلا إذا خضعت الادارة الأمريكية لمطالب الكونغرس في تجاوز قواعد الاشتباك التقليدية باتجاه ضربة تستهدف قواعد ومقرات للحرس الثوري داخل إيران، ما يعني انفتاح المشهد على معركة إقليمية واسعة.
إيرانيًا، أغلب الظنّ أنّ إيران التي تنصّلت من مقتلة الجنود الأمريكيين، ستواظب على القول بأنّها لا تملي على حلفائها ما يفعلون أو لا يفعلون، إلّا اذا غادر بايدن من مربع المساكنة مع إيران التي ستعتبر نفسها حينها في معركة دفاع عن النفس. وإذا ما قصفت الولايات المتحدة العمق الايراني، فيرجح أن تعمد طهران إلى إغلاق مضيق هرمز لتضييق حركة الملاحة الدولية بعد شبه إغلاق باب المندب، إضافة إلى تنفيذ "المقاومة الإسلامية في العراق" تهديداتها بإغلاق موانئ إسرائيل على البحر الأبيض المتوسط.
كما أنّ إيران القائمة على "عقيدة الصبر الاستراتيجي"، قادرة على التنصل من أي شيء، وتبنّي أي شيء في آن، لتقول بأنّ مقتلة الجنود الأمريكيين كانت ثأرًا وانتقامًا لاغتيال مستشاريها في دمشق وشهداء "محور المقاومة"، تمامًا كما قال المتحدث باسم الحرس الثوري بأنّ "طوفان الأقصى هو انتقام لدماء قاسم سليماني"، قبل أن يسحب جنرال الحرس الثوري حسين سلامي هذا الادعاء من التداول الذي انعكس سلبًا بين الفلسطينيين أولًا، وعلى امتداد الشارع العربي ثانيًا، وهو ما دفع أبو عبيدة الناطق باسم "كتائب القسّام" للقول في سياق تفنيد ادعاءات نتنياهو بأنّ "جميع أسلحة وصواريخ وذخائر القسّام هو من صناعتها في أنفاق غزّة".
خطورة مقتلة الأمريكيين أنّها تمّت بعد انطلاق الحوار الأمريكي العراقي الهادف إلى جدولة انسحاب القوات الأمريكية والتحالف الدولي لمحاربة "داعش"، في حين أنّ إيران تريد لأمريكا الخروج طردًا من العراق وليس عبر الحوار الدبلوماسي الذي تديره وتريده حكومة بغداد.
المنطقة تجاوزت مرحلة قرع طبول الحرب.. فهل تحدث المواجهة المباشرة بين الأمريكيين والإيرانيين، أم أنّ لدى إيران من الأوراق ما يمكّنها من تجنّب الحرب المباشرة معها؟.
ولعلّ أكثر المبتهجين حرفيًا باستهداف القاعدة الأمريكية هو بنيامين نتنياهو، سيّما وأنّه في سياق هروبه إلى الأمام مهتم بجرّ الولايات المتحدة إلى الحرب مع إيران وأذرعها على امتداد المنطقة.
(خاص "عروبة 22")