تُصرّ قيادات الدول الغربية التي تؤيد إسرائيل في حربها الطويلة على الشعب الفلسطيني أن تفرط في تقديم أنواع مختلفة من الدعم، ولو داست على القيم الإنسانية التي تتشدق بها، ما يجعل مسؤوليتها تضامنية مع عمليات الاحتلال ضد قطاع غزة.
يؤكد تجميد الدعم المادي أخيرا لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى، المعروفة بأونروا، أن عملية حصار الفلسطينيين بلغت حد التجويع مع سبق الإصرار والترصد، فالوكالة مسؤولة منذ سنوات طويلة عن توفير الغذاء لمئات الآلاف في كل من غزة والضفة الغربية والأردن وسوريا، وما يتوافر لديها من إمكانات لا يتجاوز شهر فبراير الحالي.
بُحت أصوات التوقف عن معاقبة الشعب الفلسطيني ولا حياة أو حياء لمن تنادي، كأن الدول الغربية التي أوقفت مساهمتها المالية تريد أن تثبت مرة بعد أخرى تأييدها توجهات وتصورات وانتهاكات إسرائيل التي لا تتوانى عن سياستها البغيضة لتصفية الفلسطينيين وطردهم من أرضهم بكل الوسائل الممكنة وغير الممكنة، بممارسة العنف وخنق مقومات الحياة أينما وجد فلسطينيون.
قد يكون الهدف من تزامن اتهام موظفين فلسطينيين يعملون في أونروا بدعم حماس والمشاركة في عملية «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر الماضي، التشويش على قرار محكمة العدل الدولية في مسألة الإبادة الجماعية ولفت أنظار العالم إلى تجاوزات حدثت في المنظمة الأممية، لكن النتيجة التي يمكن أن تترتب على محاولة إعدام الوكالة عملية أكبر من مما سعت إليه إسرائيل، فاليوم أونروا وغدا منظمات دولية مهمة يمكن التخلص منها ويصبح العالم بلا منظمات أممية نشيطة، وبلا دعم لحقوق الشعوب المقهورة أو رقابة لتجاوزات الدول المفترية.
تأتي الخطورة الحقيقية من انسجام موقف دول كبرى مع إسرائيل لضرب الكثير من القواعد التي قام عليها النظام الدولي الراهن، ومهما كانت معاييره مختلة وظهرت تجلياتها في محكات عديدة، لكن عندما يصل الخلل للانتقام من منظمة إنسانية مثل أونروا لأن إسرائيل تشكك في عددقليل من الموظفين من بين آلاف سوف يسهل العصف بمنظمات أخرى تقوم بمهام لها علاقة بالأمن واستقرار العالم.
ماذا لو طالبت إيران بوقف عمل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتضامنت معها روسيا والصين ودول عدة، هل ستكون الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية قادرة على محاسبة طهران؟ على الرغم من أن هذه المنظمة لم تحرك ساكنا عندما طالب مسؤول إسرائيلي بضرب غزة بالسلاح النووي، في اعتراف نادر بأن دولته تملك هذا السلاح الفتاك.
إذا رضخ المجتمع الدولي لرغبات بعض الدول فسوف تصبح منظمات دولية مختلفة تعمل في مجالات شتى في مهب الريح، ويتحول العالم إلى غابة بلا ضوابط قانونية أو منظومة قيم شكلية، وينهار الكثير من الأسس التي استند إليها النظام الدولي، وقد تضررت دول فقيرة، إلا أن دولا كبيرة اعتادت توظيف بعض هذه المنظمات لمصالحها ربما يكون ضررها أكثر، لأنها تفقد بذلك واحدة من الأوراق المهمة التي تتاجر بها.
انساقت الولايات المتحدة لشل حركة أونروا وقدمت لحكومة الحرب الإسرائيلية أنواعا متباينة من الدعم في مواقف كثيرة، ويمكن أن تصبح واشنطن أول من تتكبد خسائر على المدى القريب، لأن معاييرها لتعظيم دور المنظمات الدولية ومساندة إسرائيل، وهما لا يجتمعان، سوف تنقلب عليها عند أول مطالبة بأن تقوم أي منظمة بدورها كما هو معمول في ميثاقها، ولن تجد رضوخا أو قبولا أو تعاونا، ما يعني التمهيد لانهيار النظام الدولي، فهل تريد واشنطن الوصول إلى هذه النقطة؟.
إذا كانت الإدارة الأمريكية تعتقد أن تفكيك هذا النظام يصب في صالحها فهي مخطئة، لأنها الدولة الوحيدة التي نجحت بعد الحرب العالمية الثانية في الهيمنة على العالم، وعلى الدول المتضررة من ذلك السعي لتحقيق هذه المهمة بدلا من واشنطن، لأن أي محاولة لإعادة صياغة هذه المعادلة تصب في مصلحة خصومها الذين سئموا سيطرتها ويريدون أن تكون لهم مكانة موازية أو متفوقة عليها.
أرادت الولايات المتحدة أن تجعل من حرب إسرائيل على غزة نواة لتوازنات جديدة في منطقة الشرق الأوسط لتعزيز مكانتها، غير أن الواقع قد يفضي لتكبدها خسائر إستراتيجية، لأن عملية رسم الحدود السياسية والفواصل الأمنية والخرائط الجغرافية التي تريدها يصعب أن يكتب لها نجاح، وثمة قوى صغيرة باتت تسبب لها إزعاجا في جنوب البحر الأحمر والعراق وسوريا، ناهيك عما فقدته بسبب اهتزاز صورة إسرائيل في المنطقة والعالم عقب ضربة حركة حماس المؤثرة في عملية طوفان الأقصى.
ما يحدث مع أونروا جزء مصغر من الآلية التي تتعامل بها واشنطن مع العالم، والتي لم تظهر فجأة بالطبع وكانت ملامحها بازغة في مواقف سابقة من منظمات دولية أخرى أرادت معاقبتها، لكن هذه المرة جاء العقاب في واحدة من أعرق المنظمات الإنسانية التي حفظت للولايات المتحدة على بعض من ماء وجهها عندما كانت تسرف في دعم إسرائيل، ما يجعل الجرح غائرا، تتجاوز تأثيراته الحدود الكامنة في تقديم دعم مادي وفير لمنظمة ذات قيمة رمزية معنية بغوث وتشغيل لاجئي فلسطين.
ما يدعو للقول اليوم أونروا وغدا أخرى أن هذه المنظمة التي لا يشعر بها كثيرون خارج حدود الفلسطينيين سوف يشعرون بالفراغ الذي يمكن أن يحدثه توقفها، ما يجعل البعض يلتفتون إلى آليات عمل منظمات أممية عدة لاحقا، وقد يكتشفون الطريقة غير العادلة التي تدار بها، وكيف سخرها عدد قليل من الدول لحماية مصالحهم.
("الأهرام") المصرية