إذا كانت القوى الغربية الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية حاولت إنقاذ إسرائيل بالتشكيك في تهمة "الإبادة الجماعية"، إلا أنّ قبول دعوى جنوب أفريقيا، ومطالبة الحكومة الإسرائيلية باتخاذ الإجراءات لمنع مسار الإبادة في غزّة، فضلًا عن التنبيه إلى تصريحات كبار المسؤولين الإسرائيليين المتضمّنة نيات واضحة بممارسة جرائم الإبادة ضد الفلسطينيين، كلها مؤشرات قوية على أنّ إسرائيل بدأت تخسر بالفعل المعركة القانونية في الجوانب الإنسانية للصراع الدائر في الأرض المحتلة.
لقد قامت الخطة الإسرائيلية على ثلاثة مرتكزات هي:
- احتكار فظائع الإبادة للجرائم النازية ضد اليهود.
- تحويل النزاع المندلع في المناطق الفلسطينية المحتلة إلى حرب ضد الإرهاب.
- رفض حقوق الشعب الفلسطيني من منظور حقوق "الدولة اليهودية" في الأمن والسيادة والهوية.
حُكم المحكمة ستكون له آثار نوعية في الوعي المدني والسياسي الغربي
وهكذا ظهر في الوعي الغربي انطباع قوي أنّ القضية الوطنية الفلسطينية قد تم تجاوزها، ولم تعد مطروحة على الأجندة الدولية، بما كرّس عمليًا الفصل بين شرعية الوجود الفلسطيني والموضوعات الأمنية الإقليمية.
من هذا المنظور، أصبح الاهتمام كلّه مركّزًا على حقوق إسرائيل في الأمن، على حساب الحقوق الوطنية السيادية للشعب الفلسطيني.
بيد أنّ حكم محكمة لاهاي الأخير أبطل هذه المقاربة كلّها من خلال ثلاثة محددات أساسية هي:
- تمديد الدلالة القانونية للجرائم الإسرائيلية في غزّة، بما ولّد أزمة أخلاقية عنيفة في المجتمعات اليهودية التي عاشت طويلًا على سردية استثناء "الهولوكوست" من حيث هو تجربة الشر الأقصى، فإذا باسرائيل التي خرجت من حطام المحرقة تمارس الجرائم الفظيعة نفسها على شعب محتل.
- إعادة إحياء الموضوع الفلسطيني بصفته قضية احتلال واستيطان عنصري، تنطبق عليها أحكام القانون الدولي الإنساني، على الرغم من محاولات إسرائيل الفاشلة لاختزال الصراع في جوانب الأمن ومحاربة الإرهاب.
- وضع القوى الدولية الداعمة لإسرائيل في موقع حرج، باعتبارها ضالعة في جرائم الإبادة التي هي أخطر انتهاكات حقوق الإنسان، بما ستكون له آثار نوعية في الوعي المدني والسياسي الغربي.
الحُكم غيّر جذريًا صورة إسرائيل من الدولة الديمقراطية المحاصَرة بالعداء العربي إلى صورة القوة الاستعمارية
وكتب الصحافي الأمريكي ذو الأصول اليهودية توماس فريدمان معلّقًا على التطورات الأخيرة بعد إعلان حكم محكمة لاهاي "إنّ نتنياهو ليس فقط أسوأ حاكم لإسرائيل في تاريخها، بل أسوأ حاكم في التاريخ اليهودي". ما يعنيه فريدمان بهذه العبارة هو أنّ رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي قد قوّض الدعائم "الأخلاقية" للمشروع الصهيوني، كما دمّر في الآن نفسه فكرة الدولة الإسرائيلية الحاضنة للوجود اليهودي الآمن، نتيجة لسياساته الحربية الخرقاء الفاشلة، وخياراته الاستيطانية العنصرية التي قضت عمليًا على إمكانية الفصل بين الكيانين الفلسطيني والإسرائيلي.
لقد بدأت أصوات كثيرة في الأوساط اليهودية الغربية - وفي الولايات المتحدة الأمريكية على الأخص - تعترف بأنّ حكم محكمة العدل الدولية الأخير بخصوص حرب غزّة غيّر جذريًا صورة إسرائيل من الدولة الديمقراطية المحاصَرة بالعداء العربي، إلى صورة القوة الاستعمارية المتسلّطة والمهيمنة التي تمارس أعتى جرائم الإبادة والتمييز العنصري.
بعد حرب ١٩٦٧ حذّر الزعيم الفرنسي الأشهر الجنرال ديغول إسرائيل من الاستمرار في سياسة الاحتلال القسري في المناطق الفلسطينية بالقول إنّ كل استعمار يولّد ديناميكية مقاومة وطنية شرعية تحوّل خطأ إلى حالات إرهاب، بما يفضي في نهاية المطاف إلى أقسى الانتهاكات الحقوقية التي تنسف الصورة الأخلاقية للمحتل.
هذا بالفعل ما يحصل راهنًا في فلسطين المحتلة.
(خاص "عروبة 22")