تزداد فرص توقيع هذه الصفقة – نسبيًا - رغم وجود مشكلات لم تُحل، مثل غموض مقلق في بعض البنود وضمانات فاصلة لم تُعطَ. لن نضيع وقت القارئ إذن في سرد بنودها، ولكن سنحاول التفكير معه في ميزان القوى الذي أنتجها وبالتالي في مكاسب وخسائر المقاومة والقضية الفلسطينية المتوقعة منها.
من الناحية الاستراتيجية؛ حققت "حماس" والمقاومة تغييرًا جوهريًا في ميزان القوى المحيط بالصراع العربي - الإسرائيلي لم يحدث منذ حرب ٦ أكتوبر/تشرين الأول ٧٣، وبوصف صقر من صقور مؤسسة الأمن القومي الإسرائيلي حققت "حماس" إنجازًا تاريخيًا ومن البديهي أن تتوقع الحصول على مكاسب سياسية لها يساوي هذا الإنجاز.. ولكن للأسف فإنّ الخذلان العربي وحتى من أطراف في السلطة الفلسطينية لن يُمكّن المقاومة ولا القضية الفلسطينية من تحقيق هذا المكسب لأنّ التغيّر في ميزان القوى لصالح العرب والفلسطينيين الذي صنعه النجاح الساحق لـ"طوفان الأقصى" والصمود الأسطوري للمقاومة جرى التفريط فيه عربيًا ولم يتم الحفاظ إلا على القدر الضئيل منه.
رغم الخسارة الاستراتيجية والعملياتية لأهداف الحرب الأطلسية التي حددتها مؤسسة الأمن القومي الأمريكي لإسرائيل، فإنّ الأمريكيين تمكنوا بالتعاون مع النظام العربي الرسمي -الخاضع بنيويًا وهيكليًا، اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا لهم- من إعادة ميزان القوى إلى وضع يُمكّنهم والإسرائيليون ليس فقط من الإفلات من الهزيمة ولكن أيضًا استعادة مكاسب كانوا على وشك قطافها قبل "طوفان الأقصى" وتصوّر الجميع أنّ الطوفان الفلسطيني قد جرفها معه إلى هاوية سحيقة.
تفكير أناني انتهازي سيطر على سلوك عدد من الدول العربية أراد تحويل مأساة غزّة لتحقيق أهداف سياسية مع واشنطن
وصلت واشنطن -متأخّرة عمدًا- بسبب بسالة المقاومة ودماء وتضحيات شعبها التي فاقت كل خيال، إلى قناعة بأنّ إسرائيل لن تستطيع سحق المقاومة في وقت قريب ولن تستطيع الحصول على أسير واحد من أسرى المقاومة حيًا، كما تتضاءل فرص الوصول إلى السنوار وباقي قادتها الكبار يومًا بعد الآخر، ورغم أنّ هذه القناعة هي فعليًا خسارة كبيرة لأمريكا وإسرائيل، فإنّ واشنطن عملت على بلورة ميزان قوى محيط بالصفقة تحاول من خلاله محو هذه الخسارة أو جعلها في أضيق الحدود.
هذا الميزان يتكوّن من عناصر هي:
- لم يعجز العرب عن اتخاذ موقف داعم للمقاومة يستعمل عشرات الأسلحة المؤثرة على واشنطن ووكيلها الإسرائيلي دبلوماسيًا وسياسيًا ونفطيًا، بل عجزوا أصلًا عن اتخاذ موقف موحّد من أي نوع تجاه حرب غزّة. لا يتعلق الأمر فقط بالخضوع العربي لأمريكا منذ مباحثات كيسنجر السادات وخروج مصر من الصراع ولا بالتحوّل الذي حدث في أدوار بعض البلدان العربية وأصبحت بمقتضاه كيانات وظيفية تؤدي أدوارًا مرسومة بدقة وضعتها لكل منها على حدة الاستراتيجية الأمريكية، ولكن أيضًا للتفكير الأناني الانتهازي الذي سيطر على سلوك عدد منها والذي أراد بصراحة تحويل مأساة غزّة لتحقيق أهداف سياسية مع واشنطن يعتقد أنها إما تصب في صالح أمنه كنظام وبلد أو في صالح إعطائه دورًا إقليميًا قياديًا مستقبليًا في القضية الفلسطينية والمنطقة كان يطمح منذ زمن للحصول عليه.
- العمل أمريكيًا على إحياء تقاليد الخطة التي طبقها كيسنجر مع المصريين والسوريين بعد حرب ٧٣، وهي أولًا منع العرب من الشعور بأنهم قضوا على قوة الردع الإسرائيلية أو استطاعوا الانتصار عليها في أي حرب، وتحقيق هدف منع المقاومة من تهديد إسرائيل مجددًا عبر وسائل السياسة الماكرة، رغم أنها أخفقت في تحقيقه منذ ٢٧ أكتوبر/تشرين الأول عبر الوسائل العسكرية في حرب غزّة والتي شاركت فيها مع الجيش الاسرائيلي شراكة ميدانية تامة.
- تحويل الهزيمة في الميدان لنصر في الاستراتيجية عن طريق الربط، بين احتياجات حملة بايدن الانتخابية لتحقيق الفوز مجددًا بالبيت الأبيض نهاية هذا العام والوضع في غزّة، فبشكل غير مباشر قالها مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان "لقد ربطنا بين تسوية اليوم التالي لحرب غزّة وبين التطبيع الإقليمي الشامل بين إسرائيل والسعودية ودول إسلامية وعربية أخرى"، وسربت مغزاها دوائر أمريكية إلى وسائل إعلام بشكل مباشر لا لبس فيه "هناك حاجة لإدارة بايدن، التي تقترب من انتخابات الرئاسة، لاستجلاب فوائد سياسية من حرب الإبادة الجماعية الجارية في غزّة عبر صفقة شاملة، يتوسع فيها التطبيع العربي مع إسرائيل ليشمل المملكة العربية السعودية، وتنتهي فيها المقاومة كتهديد لإسرائيل في مقابل الوعد بدويلة فلسطينية لا علاقة لها بالقرار الأممي ١٩٤ ولا بالمبادرة العربية.. دويلة منزوعة السلاح ومنزوعة السيادة على غزّة وأجزاء محدودة من الضفة الغربية بما في ذلك بقاء القدس الشرقية مع الغربية عاصمة موحّدة لإسرائيل".
صناعة قيادة فلسطينية على مقاس حددت الإدارة الأمريكية معياره الوحيد، وهو أن تكون هذه القيادة مقبولة من إسرائيل
- صناعة قيادة فلسطينية مشتركة أو مجددة عبر تجاهل واشنطن لواقع الصعود الصاروخي لشعبية المقاومة بكل فصائلها والتراجع الصاروخي في شعبية السلطة الفلسطينية بعد "طوفان الأقصى" في كل استطلاعات الرأي الفلسطينية والإسرائيلية.
- تمضي إدارة بايدن وحلفائها العرب من المحيط إلى الخليج قدمًا في صناعة قيادة فلسطينية على مقاس حددت الإدارة الأمريكية بوجه مكشوف معياره الوحيد، وهو أن تكون هذه القيادة مقبولة من إسرائيل وأن تكون تل أبيب مستريحة للتعاون والتعامل معها. أمريكا تطرح هنا خيارين؛ إما سلطة سياسية تكون "حماس" جزءًا منها ولكن "حماس" أخرى مدجنة منزوعة السلاح معترفة بإسرائيل، فإذا رفضت يتم تحديث السلطة الفلسطينية القائمة في رام الله وتمكينها من حكم غزّة والضفة، ولكن بوجوه جديدة وآليات فساد مسيطر عليها ويصبح فيها الرئيس عباس غير المرغوب شعبيًا رئيسًا شرفيًا ويعيّن له رئيس وزراء بصلاحيات واسعة في صورة مشابهة للنموذج السياسي الإسرائيلي.
- التحدي الكبير الذي تواجهه الصفقة حقيقة أنّ الجناح العسكري في "حماس" يلعب دورًا في صنع القرار لا يقل أهمية عن دور الجناح السياسي، وأنّ قيادة الداخل في غزّة سواء السياسية والعسكرية ورمزيها على التوالي السنوار والضيف يلعبان الدور المرجح في صنع القرار وليس قيادة الخارج. والأهم أنّ هذه القيادة السياسية في الخارج تعمل باستراتيجية صلبة مفادها أنّ السياسة لن تخون السلاح، وأنهم لن يوافقوا على الضعوط التي يمارسها الأمريكيون عبر العرب وتركيا لقبول بعض الحلول التي يعلمون علم اليقين أنها لن تقبل وبالتالي لن تنفذ أصلًا على الأرض ممن بيدهم السلاح وفي حوزتهم الأسرى.
"حماس" تعرف أنّ وجودها أو فناءها التاريخي كحركة مربوط باستفادتها من خطأ "فتح" التاريخي
- بالقطع لا يعمل المكتب السياسي لـ"حماس" في الخارج كساعي بريد بين الوسطاء وقيادة الحركة داخل غزّة، ولكنهم أيضًا ليسوا مطلقي اليدين كما كان عرفات بالنسبة لمنظمة التحرير في اتفاق أوسلو. وهذا من حسن حظ المقاومة والشعب الفلسطيني والأمن القومي العربي. سيكون صعبًا على قيادة "حماس" أن تقرّ صفقة لا تنتهي مراحلها الثلاث المقترحة بوقف نهائي للحرب وهدنة طويلة وتدفق المساعدات الإنسانية لأهالي القطاع وإعادة الإعمار. والأهم من ذلك كله أنّ "حماس" تعرف أنّ شعبيتها بل وجودها أو فناءها التاريخي كحركة مربوط باستفادتها من خطأ "فتح" التاريخي وعدم تكراره مرة أخرى عندما قبلت في أوسلو نزع سلاحها قبل أن تحل قضايا الوضع النهائي وقبل أن تحصل على حقوقها المشروعة كاملة.
- "حماس" داخلًا وخارجًا أيضًا ليست وحدها فلديها شركاء في السلاح والتضحيات كـ"الجهاد" و"الجبهة الشعبية"، وهما واضحان جدًا في العمل كضمير حارس. وهناك ما هو أكبر من الفصائل كلها وهو الشعب الفلسطيني، في غزّة والضفة وحتى في أراضي الـ٤٨، الوفي لتضحياته الجسيمة.
(خاص "عروبة 22")