حتى الليلة التي سبقت تلك الجمعة، كان مبارك يراوغ ويرفض مبدأ الرحيل وقدّم عددًا من البدائل في محاولة لامتصاص غضب المتظاهرين الذين احتلوا ميدان التحرير لمدة 18 يومًا، ومع بلوغ غضب الثوار ذروته قرروا نقل اعتصامهم إلى محيط قصر الاتحادية الرئاسي حيث مقر إقامة مبارك، فيما عُرف حينها بـ"جمعة الزحف".
تلقى مبارك صباح ذلك اليوم اتصالًا هاتفيًا من وزير دفاعه المشير حسين طنطاوي، ودار بينهما حديث عن سُبُل تأمين قوات الحرس الجمهوري للقصر الرئاسي، ثم تلاه اتصال آخر بعد صلاة الجمعة، جرت المكالمة وفي الخلفية صوت هدير الحشود وهي تهتف "إرحل.. إرحل"، بدا الرئيس الراحل حينها أنه مقتنع بفكرة الرحيل، حسبما روى طنطاوي لأعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعد انتهاء المحادثة، "كان السبب الرئيسي في قناعته بفكرة التخلي عن السلطة خوفه من اقتحام المتظاهرين للقصر"، وزاد من ذلك التحذير الذي تلقاه من وزير دفاعه بخطورة الوضع واحتمالية تعرّضه للأذى من قبل الغاضبين.
أعمدة الثورة الثلاث "العيش.. الحرية.. العدالة الاجتماعية" تحوّلت إلى مجرد كليشيهات يلوكها المسؤولون
انتهت المكالمة بإبلاغ مبارك لوزير دفاعه أنه مستعد للتخلي عن السلطة، واتفق الرئيس والمشير على إرسال اللواء عمر سليمان لتسجيل خطاب التنحي بمقر وزارة الدفاع، وطلب المجلس العسكري أن يكون خطابًا مقتضبًا حاسمًا، يعلن فيه مبارك عن رحيله وتكيلف الجيش بإدارة البلاد، وهو ما قد حدث.
وما أن انتهى سليمان من خطابه حتى انفجرت شوراع مصر وميادينها احتفالًا بالنصر الذي صنعه المصريون بالدماء والدموع والعرق، واحتفاءً بـ"عودة الروح" إلى الشعب الذي تملّكه اليأس من إمكانية إزاحة سلطة عملت لنحو 3 عقود على تهميشه وإهدار حقوقه والتلاعب بإرادته، نزل البيان على مسامع الثوار وكأنه أذان رُفع في سماء المحروسة، ليدق ناقوس الحرية ويعلن عن فجر جديد للبلاد.
تنوّعت الهتافات التي جلجلت في سماء ميدان التحرير ما بين "الشعب خلاص أسقط النظام"، و"الله وحده أسقط النظام"، ليقترب من بعيد صوت هتاف لمجموعة من الشباب عادوا لتوّهم من رحلة "الزحف" إلى قصر الاتحادية، يرددون "الشعب يريد بناء نظام جديد".
دخلت تلك المجموعة إلى الميدان لتنضم إليها مجموعات أخرى تأثّرت بذاك الهتاف الذي عبّر عن تطلّعات ثورة أجبرت نظامًا على الرحيل، وتسعى إلى وضع أُسُس نظام جديد يتلافى كل خطايا الأنظمة التي تعاقبت على حكم مصر، نظام يضع نصب عينيه أعمدة الثورة الثلاث "العيش.. الحرية.. العدالة الاجتماعية"، تلك الأعمدة التي تحوّلت إلى مجرد كليشيهات يلوكها المسؤولون، منذ إعلان الرئيس الراحل أنور السادات انقلابه على مبادئ جمهورية ثورة يوليو/تموز 1952، ليضع قواعد جمهوريته الجديدة منتصف سبعينيات القرن الماضي، الأعمدة التي أهمل جمال عبد الناصر إحداها –الحرية- في خمسينيات وستينيات القرن الماضي ليبقى البناء مائلًا حتى اصطدمت البلاد بنكسة يونيو/حزيران، والتي كان أحد أسبابها "الشللية وانفراد مراكز القوى باتخاذ القرار"، على حد تعبير قائد ثورة يوليو في المراجعات التي أعقبت الهزيمة.
وكما أمر الشعب بإسقاط ذلك النظام وإغلاق صفحة تلك الحقبة التي امتدت لنحو 4 عقود هي فترتَي حكم السادات ومبارك، أمر أيضًا بـ"بناء نظام جديد" على أُسُس الديمقراطية والحرية والعدالة والكرامة واحترام حق الشعب في الاختيار، وهو للأسف ما لم يحدث حتى الآن.
ضمانة عدم تكرار ما جرى هو بناء نظام يضع قواعد دولة ديمقراطية لا يضطر فيها الناس إلى الثورة لتغيير حُكّامهم
دستور مصر الذي أُقرّ عام 2014 نصّ على أنّ ثورة 25 يناير "الفريدة في تاريخ الثورات"، إشارة وبشارة؛ "إشارة إلى ماضٍ ما زال حاضرًا، وبشارة بمستقبل تتطلّع إليه الإنسانية كلّها"، ودعا إلى احترامها باعتبارها "امتدادًا لمسيرة نضال.. وتتويجًا لثورتين عظيمتين فى تاريخ مصر الحديث"، ورغم ذلك لا يتوقف النظام الحالي عن إهالة التراب عليها محمّلا إياها كل نقيصة وإخفاق وفشل أحاط بالبلاد خلال السنوات الأخيرة، ولم يمل من تحذير الناس من تكرار ما جرى بها "حتى لا يعم الخراب"، لكنه لم يتوقف ليتدبّر ويعيد النظر في الأسباب التي أدت إليها والعمل على تداركها.
الضمانة الوحيدة لعدم تكرار ما جرى قبل 13 عامًا، هو بناء نظام جديد يضع قواعد الدولة التي خرج المصريون إلى الشوارع يهتفون ويطالبون بتأسيسها، دولة ديمقراطية لا يضطر فيها الناس إلى الثورة لتغيير حُكّامهم بل يذهبون إلى صناديق الاقتراع التي تحترم إرادتهم، فهذا هو السبيل الأسلم.
"نحن نؤمن بالديمقراطية طريقًا ومستقبلًا وأسلوب حياة، وبالتعددية السياسية، وبالتداول السلمي للسلطة، ونؤكد على حق الشعب في صنع مستقبله، هو – وحده – مصدر السلطات.. الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية حق لكل مواطن، ولنا ولأجيالنا القادمة السيادة في وطن سيّد".. من ديباجة دستور 2014.
(خاص "عروبة 22")