يتعلق الأمر بالفيلم الأمريكي "كل رجال الرئيس" (All the president's men) وهو مقتبس عن كتاب بالعنوان نفسه، للصحفيين بوب ودوورد وكارل برنستين، ويُعتبر مرجعًا سينمائيًا مهمًّا في دراما الصحافة، وإحدى المدارس الكلاسيكية للسينما الواقعية. كان قد سلّط الضوء على فضيحة "واترغييت" الشهيرة، والتي فك رموزها آنذاك صحفيان شابان يعملان في جريدة "واشنطن بوست".
يغوص بنا الفيلم في خبايا مغامرة صحفية تحفها المخاطر ويسيطر عليها الخوف والتردّد. يجوز لنا القول إنّ عبقرية "كل رجال الرئيس" لا تكمن فقط في صلابة الحبكة وتألّق الممثلين، بل تكمن في الحركة الواقعية للكاميرا التي تدعو المتفرّج إلى أن يكون جزءًا من القصة. تجدر الإشارة إلى أنّ مخرج الفيلم، الراحل آلان جي باكولا، كان قد عُرف بأسلوبه الواقعي في السرد السينمائي. ونذكر من أعماله الخالدة في هذا الاتجاه، فيلمَيّ "اختيار صوفي" و"لا تقتل طائرًا بريئًا". هذا الأخير الذي تمّ تصنيفه سنة 1995 من طرف مكتبة الكونغرس لحفظ الذاكرة السينمائية، كعمل تاريخي ذي قيمة ثقافية وفنية عالية.
تصيبنا سينيماتوغرافيا باكولا بالتوتر الشديد، إذ لم تكن غرفة التحرير في "واشنطن بوست" فضاءً ثانويًا يؤثث لخلفية اللقطة، بل كانت غرفة التحرير شخصية رئيسية ذات طبيعة حية ودينامية متسارعة، من خلال التركيز على الأصوات الخلفية، أو أجراس الهواتف اللامتناهية، أو أكوام الأوراق وقصاصات الجرائد المتناثرة. لقد تمت دعوة المشاهد إلى الجلوس خلف الآلة الكاتبة والشروع في تحرير التقارير المهمة والإجابة على المكالمات المزعجة.
أمريكا.. "ما لقيصر لقيصر وما لله لله"
يُعتبر فيلم "كل رجال الرئيس" تأريخًا حيًّا لأكثر الأزمات السياسية إثارة للجدل في التاريخ الأمريكي الحديث، حيث تمّ إنتاج الفيلم سنتين فقط بعد تفجّر فضيحة "واترغييت". وفي هذا السياق، لا يسعنا كشعوب عربية تعاني القمع والاضطهاد، إلا أن نحترم المبدأ البراغماتي الذي يؤسّس للأخلاقيات الأمريكية العامة، وعلى رأسها حرية الصحافة والتعبير. حيث تظل ثقافة الاعتراف والانصاف واجبًا ملحًا، وإن تعلّق الأمر بفرقاء سياسيين أو أيديولوجيين.
ما يُميّز "أرض الأحرار" هو المرونة الفكرية في التعامل مع الحالة الانسانية في كل تمثّلاتها وتقلّباتها وخطاياها. هذه المرونة التي تأخذ على عاتقها، مثلًا، حماية الحق في الحصول على المعلومة، كما تقدّس الحق في التعليق عليها، إذ يلقّب الأمريكيون السلطة الرابعة في جنسها الاستقصائي بـ"كلب الحراسة"، في إشارة رمزية إلى قوة وصلابة وسرعة بديهة الجسد الصحفي، وأهميته القصوى في رصد الانفلاتات الاخلاقية لرجال السياسة والمال والحرب.
"تَعَقَّبْ المال"، هي عبارة أصبحت متداولة على نطاق واسع في عالم التحقيقات الصحفية، بعد أن تمت الاشارة إليها في أحد مشاهد "كل رجال الرئيس". تحيلنا هذه العبارة الشهيرة على السبل التي يجب على الصحفي اتباعها من أجل فك خيوط الفساد السياسي المتشابكة، وذلك عبر تعقب حركة التحويلات المالية بين الأحزاب مثلًا. وتجدر الاشارة إلى أنّه قد تم استخدام تعبير "تَعَقَّبْ المال" في الجزء الأول من مسلسل الإثارة والجريمة السياسية الأمريكي "بيت من ورق".
الصحافة العربية.. بين تضييق الحاكم ورصاص المحتل
أعادت لنا الجولة السينمائية بين ردهات "واشنطن بوست" ذكريات أليمة حول مصير عدد من الصحفيين العرب الذين دفعوا حياتهم ثمنًا للكلمة. إنّ الواقع المهتز لحرية الرأي في العالم العربي، وما يصاحبه من قوانين مجحفة تؤطر مهنة الصحافة، وتحد من استقلاليتها، بسبب العقوبات المالية أو السجنية، يطرح أكثر من علامة استفهام حول مستقبل الخبر في بلادنا.
إذ لا تستقيم الدينامية السياسية والانتعاش الاقتصادي والانفتاح الثقافي الذي تعرفه حاليًا معظم بلاد العرب، مع أساليب القمع والترهيب المتجاوزة، في حق مهنة حيوية كالصحافة.
.. فإلى متى ستظلّ سترة الصحفي العربي هدفًا حرًا للقناص الاسرائيلي، أو خطيئة كبرى تستوجب المساءلة والعقاب من الحاكم؟.
(خاص "عروبة 22")