بعد أن ملّ النازحون الفلسطينيون من الاستماع إلى حديث الساسة والدبلوماسيين المتكرّر عن ضرورة وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات الإنسانية لإنقاذ من تبقى منهم على قيد الحياة، فاض ببعضهم الكيل، وأشعل هؤلاء، مساء الجمعة الماضي، النيران في إطارت السيارات أمام بوابة معبر رفح الرئيسية، وانقضوا على شاحنة مساعدات كانت في طريقها إلى القطاع حتى وصلت الشرطة الفلسطينية لـ"ضبط الوضع الميداني وتأمين الشاحنات"، وقامت بإطلاق النار في الهواء لتشتيت المحتجين.
على مدار نحو 130 يومًا، مارس العدو الصهيوني بمشاركة حلفائه الأمريكيين والأوروبيين أبشع أنواع جرائم الحرب ضد سكان غزّة، قصف منازلهم ومشافيهم ومتاجرهم ومخابزهم، ومنع عنهم الغذاء والدواء والكساء، وأجبرهم على التوجه جنوبًا حتى تكدّسوا في أقل من 55 كيلومترًا مربعًا دون أي مقومات للحياة، ومع ذلك صمد الغزيون وقاوموا - حتى الآن - كل محاولات تهجيرهم خارج القطاع، لأنهم على يقين أنهم لو خرجوا لن يعودوا كما حدث في النكبة الأولى قبل 75 عامًا.
منذ اليوم الأول للحرب، لم تُخفِ إسرائيل نواياها، فدولة الاحتلال خططت حتى قبل عملية "طوفان الأقصى"، كي تتخلّص من صداع سكان القطاع بنقلهم إلى شبة جزيرة سيناء المصرية، وهو ما لم يُخفِه الوزراء والمسؤولون الإسرائيليون، وأكدته وثيقة تتضمن توصية لوزيرة الاستخبارات الإسرائيلية غيلا غملائيل، تشرح فيها خطوات نقل سكان غزة "قسرًا" إلى سيناء.
ووفقًا للوثيقة التي نشرتها صحيفة "كالكاليست" العبرية نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تتناول خطة غملائيل 4 مراحل لضمان تنفيذ مخطط التهجير، وهي:
- إنشاء "مدن خيام" في شبه جزيرة سيناء جنوب غربي قطاع غزّة.
- إنشاء ممر إنساني لمساعدة السكان.
- بناء مدن في شمال سيناء.
- إنشاء منطقة مراقبة بعرض عدة كيلومترات داخل مصر جنوبي الحدود مع إسرائيل، حتى لا يتمكن السكان الذين تم إجلاؤهم من العودة مجددًا.
مصر من جانبها أعلنت مبكرًا، رفضها التام لهذا المخطط، وهددت سرًا ثم علنًا بأنها ستعلّق معاهدة السلام مع إسرائيل، في حال مضت الأخيرة قدمًا في تنفيذ مخططها، مارست الإدارة المصرية ما استطاعت إليه سبيلا، من ضغوط سياسية ودبلوماسية ونقلت إلى شركائها الأمريكيين والأوروبيين رسائل غاضبة تفيد بأنّ تنفيذ هذا المخطط سوف يشعل المنطقة.
"قنبلة موقوتة" جاهزة للانفجار لتدمّر السياج الحدودي بين رفح الفلسطينية والمصرية في أية لحظة
حاولت تل أبيب – ظاهريًا - امتصاص غضب القاهرة، وأكد بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية، في تصريحات متعاقبة أنهم لن يجبروا سكان غزّة على إخلاء القطاع، كما أنهم لا ينوون إعادة احتلاله، لكن رياح الأحداث جرت بما لا تشتهي مصر، فدولة الاحتلال وضعت الغزيين بين خيارين، إما الموت قصفًا وقنصًا وجوعًا ومرضًا وبردًا، وإما التوجه إلى الحدود المصرية لتحويل التهجير إلى أمر واقع.
نزح إلى رفح آخر ملاذ للغزيين، ما يقرب من مليون ونصف مليون نازح، صار هؤلاء أشبه بـ"قنبلة موقوتة" جاهزة للانفجار لتدمّر السياج الحدودي بين رفح الفلسطينية والمصرية في أية لحظة، حينها لن تجد الإدارة المصرية بدًا من استقبالهم أو على الأقل بعضهم لأسباب إنسانية.
يصر نتنياهو على أنّ "نصره المطلق"، لن يتحقق إلا باجتياح رفح وتفكيك كتائب "حماس" المتمركزة في جنوب القطاع، فيما يحاول بعض وزرائه وحلفائه استفزاز مصر، إذ اتهمها أحدهم بتهريب السلاح إلى "حماس"، فيما ذهب آخر إلى أنها المسؤولة عن "طوفان الأقصى"، فلولا غضها الطرف عن عبور الأسلحة من الأنفاق التي تربط بين سيناء والقطاع، ما كانت فصائل المقاومة قد نجحت في تنفيذ هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
مصر في حل من أي التزام تفرضه اتفاقية السلام إذا انتهكت إسرائيل بنود "كامب ديفيد" وانتشر جيشها في المنطقة (د)
تخلت القاهرة مؤخرًا، عن ممارسة "ضبط النفس"، وصدرت تصريحات رسمية وشبه رسمية، تحمل تهديدًا مباشرًا بأنّ مصر لن يقف ردها على استفزازت تل أبيب عند حد استدعاء سفيرها من العاصمة الإسرائيلية أو طرد السفير الإسرائيلي من القاهرة لو اجتازت حكومة الاحتلال "الخطوط الحمراء"، والتي أجملها مصدر قريب من دوائر صنع القرار في "اجتياح رفح الفلسطينية بريًا، واحتلال محور فيلادلفيا، ودفع النازحين الفلسطينيين قسرًا إلى المعبر لإجبارهم على اجتياز السياج الحدودي".
ويشير المصدر إلى أنه في حال انتهاك إسرائيل بنود معاهدة "كامب ديفيد" وانتشار قوات جيشها في المنطقة (د)، فمصر ستكون في حل من أي التزام تفرضه اتفاقية السلام، لافتًا إلى أنّ الاستعدادات جارية على قدم وساق للتعامل مع هذا السيناريو منذ فترة.
لو كانت مصر تخلت مبكرًا عن تلك الحالة من "ضبط النفس"، لما وصلت الأمور إلى ما هي عليه من تأزّم وما نجحت إسرائيل في وضعها أمام الأمر الواقع، فتل أبيب تعلم جيدًا أنّ المواجهة مع جارتها الغربية محفوفة بالمخاطر، فرغم الأزمة الاقتصادية التي تمر بها القاهرة إلا أنها لا تزال تمتلك أقوى جيش في الشرق الأوسط، باعتراف الجنرال الإسرائيلي المتقاعد إسحاق بريك.
بريك قال في مقابلة مع برنامج "إف إم 103" إنه على الرغم من أنّ "مصر دولة فقيرة فلديها أقوى جيش في الشرق الأوسط اليوم بنحو 4 آلاف دبابة.. ومئات من الطائرات الأكثر تقدمًا، وبحرية من أفضل ما هو موجود. كما أنهم لسنوات يبنون الطرق السريعة المؤدية إلى سيناء".
القاهرة تأخّرت في التعامل بخشونة مع التهديدات الإسرائيلية
بريك أكد في حديثه الذي نقلته صحيفة "جيروزاليم بوست" العبرية، أنّ استعدادت مصر العسكرية موجهة لبلاده، "نحن الهدف.. إنهم لا يبنون الجيش لأي طرف آخر.. وهذا يعني أنهم باتخاذ قرار بإلغاء السلام، سيصبحون دولة معادية، ونحن ليس لدينا حتى لواء للوقوف في مواجهتهم".
يتحسّب القادة السياسيون والعسكريون الإسرائيليون لمصر، لكن للأسف القاهرة التي تقيّدت منذ أكثر من 4 عقود ببنود "كامب ديفيد" الأمنية، تأخرت في التعامل بخشونة مع التهديدات الإسرائيلية، ولم تلوّح بما تملكه من أوراق من شأنها أن تردع دولة الاحتلال، وهو ما شجّع تلك الأخيرة على المضي قدمًا في تنفيذ مخططها بتهجير أهل القطاع، قسريًا أو طوعيًا.
لكن أن تأتي متأخرًا خير من ألا تأتي أبدا، فعسى أن تشكل ردود الأفعال المصرية الأخيرة، سواء على مستوى التصريحات السياسية أو التحركات العملياتية رادعًا للإسرائيليين.
ليس من المسبتعد أن تكون تهديدات تل أبيب باجتياح رفح وإحكام حصار النازحين على الحدود المصرية، جزءًا من معركة عض الأصابع وممارسة الضغوط سواء على فصائل المقاومة، حتى تخفض من سقف مطالبها لتنفيذ اتفاق باريس الخاص بتعليق وقف إطلاق النار وتبادل الرهائن، أو على مصر ليمارس مسؤولوها ضغطًا على ممثلي الفصائل ليبدوا مرونة في المفاوضات الجارية في القاهرة منذ منتصف الأسبوع الماضي، مع ذلك يجب على السلطة المصرية أن تتأهب لكل الاحتمالات، وتبادر بخطوات استباقية قبل أن يقع البلاء.
(خاص "عروبة 22")