كابوس رفح

منذ بداية العدوان الإسرائيلي الخامس على قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، تتوالى الهجمات العنيفة من البر، البحر والجو، فوق أرض مدينة رفح الفلسطينية وباطنها. وعقب إطلاق سراح رهينتين إسرائيليتين كانا محتجزين لدى عائلة غزية، إثر عملية خلفت عشرات الفلسطينيين، واعتبرها وزير الدفاع الإسرائيلي «نقطة تحول» في مجريات العدوان؛ أكد نتنياهو، أن الضغط العسكري المتواصل حتى «النصر المطلق»، سيفضي إلى إطلاق سراح باقي الرهائن، بما يعيد ثقة الإسرائيليين في جيشهم. وفور انسحابه من مفاوضات القاهرة، حذر الوفد الإسرائيلي من أن جيش الاحتلال سيجتاح رفح حال تعذر الاتفاق مع حماس. ورغم تحذير جهات دولية وعربية شتى من خطورة الأمر، طلب نتنياهو، من رئيس أركان جيشه إعادة تعبئة جنود الاحتياط، الذين تم تسريحهم، استعدادا لغزو رفح. ووضع خطة للإجلاء القسري لسكانه، تتضمن إقامة ممر آمن للمدنيين، توطئة لتدمير ما يعتبره فلول المقاومة وبقايا قدراتها التسليحية، قبل حلول شهر رمضان.

عديدة هي الذرائع، التى يسوقها، نتنياهو، لاجتياح رفح. حيث يعتبرها المعقل المركزي لقيادة حماس، إذ تحتضن قيادات الحركة وأربع كتائب لها. بينما يتطلع إلى ملاحقة تلك القيادات، وتدمير الأنفاق، لإدراك النصر الحتمي. وقد شكلت رفح نقطة مواجهة متقدمة مع جيش الاحتلال في القطاع، ويمثل لواء رفح خمس القوة القتالية لحماس، وما زال بعد خمسة أشهر من العدوان يحتفظ بنصيب الأسد من قدراته العسكرية البشرية والمادية. وساهمت رفح في إمداد المقاومة الفلسطينية بعدد من أبرز قادتها العسكريين. ورغم غياب الأدلة، يظل محور فيلادلفيا «صلاح الدين» عنوانا للاتهامات والمزاعم الإسرائيلية الباطلة بكونه شريان الإمداد العسكري للمقاومة الفلسطينية. ومن رفح، انطلقت عشرات العمليات النوعية إبان حقبة الاحتلال، ثم انتفاضة الأقصى. وعقب انسحاب الاحتلال من القطاع عام 2005، انطلقت من رفح عملية «الوهم المتبدد»، التي أسفرت عن أسر الجندي، جلعاد شاليط، من موقع كرم أبو سالم العسكري، عام 2006، ثم الضابط، هدار غولدن، عام 2014. لذا، جدد، نتنياهو، المضي قدما في تنفيذ الاجتياح، الذي لا تراجع عنه، لأهميته العملياتية والاستراتيجية، كونه سيفضي إلى «صفقة واقعية» لتبادل الأسرى مع المقاومة الفلسطينية.

ثمة تحديات عديدة تعترض المخطط الإسرائيلي لاجتياح رفح بريا. فلوجيستيا، وعلاوة على تعثر جيش الاحتلال في خان يونس، يتطلب الاجتياح إجلاء مليون ونصف المليون مدني. بعدما استقبلت رفح 1.2 مليون نازح لينضموا إلى 180 ألفا من سكانها، يحشرون جميعا في مساحة 55 كيلومترا مربعا فقط، لتشكل أعلى كثافة سكانية في العالم. الأمر الذي يفاقم أعداد الضحايا المدنيين حالة الاجتياح الإسرائيلي. بدوره، يدعي جيش الاحتلال أنه سيضمن ممرا آمنا للمدنيين قبل الهجوم المرتقب، لإجلاء السكان إلى خان يونس أو شمالي القطاع. على أن تكون المرحلة الثانية إقامة مدينة «خيام» واسعة، تصلها المواد الغذائية، المياه والمساعدات الإنسانية من خلال حاجزي «إيرز» و«كارني». من جانبها، أكدت الأمم المتحدة أنها لن تشارك في الإجلاء القسري للفلسطينيين من رفح، مع افتقاد مأوى أو ملاذ آمن بالقطاع الذي أضحى أثرا بعد عين، كما يغص بالذخائر غير المنفجرة. فمنذ اندلاع العدوان الإسرائيلي، لقي المدنيون الذين اتبعوا توجيهات الإخلاء الإسرائيلية، حتفهم جراء القصف المتواصل، فيما لم تطوى مناطق الإخلاء والتنبيهات التحذيرية من الجيش الإسرائيلي ضمانات لسلامة المدنيين في القطاع المكتظ بالسكان.

وسياسيا، تتفاقم الخلافات داخل الحكومة الإسرائيلية، حيث أفادت القناة 13 بوقوع مشاحنات بين نتنياهو ورئيس الأركان بشأن عملية رفح. فبينما يتهمه نتنياهو بالتباطؤ، يرى الأخير، أن تنفيذ الاجتياح يتطلب ظروفا قانونية وزمنية مواتية، إلى جانب استعصاء إجلاء 1.4 مليون فلسطيني وتوزيعهم على مناطق مختلفة في شمال القطاع. إذ لم يتم بعد تهيئة المناطق، التي سيتم نقل المدنيين إليها، فيما لم تؤتِ التفاهمات مع القاهرة حول محور فيلادلفيا، أكلها. ما يجعل تنفيذ الاجتياح قبل رمضان، حسب طلب نتنياهو، مستحيلا.

قانونيا، أعلنت محكمة العدل الدولية أن التطورات في رفح، من شأنها أن تفاقم الكابوس الفلسطيني، مؤكدة أن إسرائيل تظل ملزمة بالامتثال لاتفاقية مكافحة الإبادة الجماعية، بما فيها ضمان أمن الفلسطينيين في غزة. وبناء عليه، حذر مسئولون إسرائيليون من أن تشكل تداعيات اجتياح رفح، أحد أخطر الاتهامات، التي ستتناولها جلسات المحكمة مستقبلا. خصوصا في ظل احتمالات تنامي الاحتجاج الدولي على محتوى التقرير، الذي ستقدمه إسرائيل للمحكمة يوم 26 فبراير الحالي، بخصوص التدابير الواجب اتخاذها لمنع ارتكاب المزيد من جرائم الإبادة. ويرى خبراء إسرائيليون في تصريحات نتنياهو، وخلافه مع رئيس الأركان حول رفح، مادة ثرية لاتهام إسرائيل أمام المحكمة بارتكاب جرائم حرب. خصوصا بعدما شرع جيش الاحتلال في إجراء تحقيقات بشأن قتل المدنيين وتدمير البيوت، المستشفيات ومؤسسات التعليم.

يتطلب القيام بعملية عسكرية إسرائيلية في رفح، تنسيقا مع مصر، التي ترفض العملية، كونها ستعيق دخول المساعدات الإنسانية والإغاثية إلى غزة، كما تفاقم نزوح سكان غزة اليائسين إلى سيناء. وحذرت مصر من أن أي تحرك لإجبار الفلسطينيين على العبور إلى سيناء، سيشكل انتهاكا لمعاهدة السلام عام 1979، التي نصت على بقاء رفح منزوعة السلاح من الجانبين. وفي إطار سلسلة تدابير لتعزيز الأمن على حدودها مع غزة، نشر الجيش المصري نحو 40 دبابة وناقلة جند مدرعة. ومنذ اندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس في السابع من أكتوبر الفائت، شيدت مصر جدارا حدوديا خرسانيا تمتد أسسه في الأرض ستة أمتار، وتعلوه أسلاك شائكة. كما أقامت حواجز رملية، وعززت المراقبة عند مواقع التمركز الحدودية. وكثفت منظومتها الدفاعية على الحدود بسياجات وكاميرات وأبراج مراقبة وأجهزة استشعار. الأمر الذي اعتبره مراقبون، مؤشرا على تآكل الثقة بين مصر وإسرائيل.

لا تحظى عملية نتنياهو المزمعة في رفح بأي تأييد دولي. فأمريكيا، وحتى لا تفقد سمعتها أو صدقية التزامها بمسؤولياتها القانونية والأخلاقية، تجاه ما يمكن أن يحدث من مذابح وكوارث إنسانية للفلسطينيين في رفح؛ رهنت واشنطن موافقتها على الاجتياح، بوجود، خطة ذات مصداقية وقابلة للتنفيذ، بما يضمن حماية المدنيين.

بدورهم، حذر الأوربيون من أن الاجتياح الإسرائيلي لرفح، سيكون كارثة إنسانية تفوق الوصف. وفي يوم 13 فبراير الحالي، تقدمت جنوب إفريقيا بطلب عاجل لمحكمة العدل الدولية لبحث مدى قانونية ذلك الاجتياح. كما تدرس جهات حقوقية ناشطة إمكانية التوجه العاجل إلى المحكمة لمطالبتها باستصدار أمر فوري يلزم إسرائيل بوقف القتال في غزة والامتناع عن اجتياح رفح، كقرار استباقي لمنع جرائم حرب بحق 1.4 مليون فلسطيني.

ولما كانت عملية اجتياح رفح، تفتح الأبواب على مصاريعها لنكبة فلسطينية ثانية لسكان غزة، هددت حركة حماس أن تلك العملية ستؤدي إلى نسف مفاوضات الهدنة وتبادل الرهائن والأسرى الإسرائيليين مقابل المعتقلين الفلسطينيين. كما ستفضي إلى توسيع نطاق التوترات الإقليمية، عبر تصعيد سقف المواجهات المسلحة بين «محور المقاومة» والاحتلال على جبهات شتى.

انطلاقا مما ذكر آنفا، من غير المستبعد أن يكون التهديد الإسرائيلي باجتياح رفح، محض خطوة تكتيكية للضغط على الوسطاء الإقليميين والدوليين، كما حركة حماس، لحملهم على تقديم تنازلات لإتمام صفقة تبادل أسرى "واقعية"، من وجهة نظر نتنياهو. حيث يوقن الأخير أن الضغط العسكري وحده، هو الكفيل بكسر شوكة حماس وإجبارها على القبول بصفقة تلبي الشروط الإسرائيلية. ومن ثم، قد يستعيض جيش الاحتلال عن الاجتياح البري الشامل، لرفح، بتنفيذ عمليات نوعية دقيقة، لتقويض ما يعتقد أنها أهداف عسكرية تابعة لفصائل المقاومة الفلسطينية.

("الشروق") المصرية

يتم التصفح الآن